جمال البنا يواصل الحكايات..

السينما الأمريكية أسهمت فى تكوينى الثقافى ومنها تعلمت آداب المجتمع

الخميس، 12 فبراير 2009 08:22 م
السينما الأمريكية أسهمت فى تكوينى الثقافى ومنها تعلمت آداب المجتمع جمال البنا
كتب وائل السمرى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
◄لم أكن موهوبًا فى الحفظ.. وهذه إحدى نقاط ضعفى كمحاضر إسلامى فالمحاضرة تفقد طابعها الإسلامى إن لم ترصع بآيات من القرآن
◄كان محمود حسنى العرابى هو الزعيم العمالى والوحيد الذى قابل لينين وحينما نفذ أوامره كانت نهايته

عرفنا من خلال الحلقات السابقة أهم مراحل التكوين الثقافى والاجتماعى للمفكر جمال البنا، وعلاقته بأبيه الشيخ عبدالرحمن البنا الذى كان يعمل «ساعاتى» يقتطع من قوت يومه ليشترى الكتب الإسلامية ويحققها ويدرسها، ويجمع فصول الروايات التى كانت تنشرها الأهرام على حلقات، وأثرت عقلية الأب المتفتحة فى شخصية ابنه الأصغر «جمال»، كما عرفنا أهم السمات الشخصية للأستاذ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين،، كما أدلى البنا بالمزيد من الأسرار عن الفترة المتقدمة من شبابه التى شهدت بداية انخراطه فى المجتمع الفكرى والسياسى، ثم اعتقاله، ومرورا باشتراكه مع أحمد حسين باشا فى الحزب الاشتراكى، فى هذه الحلقة يدلى جمال البنا بشهادته وتجاربه حول عمله العمالى مع الدكتور عبدالعزيز النجار، وأهم ما شكل وجدانه الثقافى من مراجع وكتب أجنبية، وآرائه فى السياسة والفقهاء، والسينما العربية والأمريكية التى يعتبرها من أهم ما كون شخصيته الفكرية.. وإلى نص الحلقة.

فى الثمانينيات تعرف جمال البنا على الدكتور أحمد عبدالعزيز النجار رائد تجربة البنوك الإسلامية، ولا يذكر جمال البنا على وجه التحديد أسباب هذه المعرفة، ولكنه يذكر أن أحد العاملين فى الثقافة العمالية وكان وقتئذ أمين مكتبة الاتحاد العالمى للبنوك الإسلامية جاءه يرجوه مقابلة الدكتور النجار، وقال له: إن الدكتور طلب من معاونيه أن يحضروا جمال البنا من تحت الأرض، ولم يكن هناك من يعرفه، ولما علم أمين المكتبة ذهب إليه وقال له: إنه يعرفه، فطلب منه أن يذهب ويأتى بى، وكانت تلك هى طريقة هذا الرجل «عملى» و»حامى» ولا يعرف البيروقراطية، ولما قابلته أهديته نسخة من كتاب «روح الإسلام» وبعد ثلاثة أيام أيقظنى رنين جرس التليفون فى موهن من الليل ورد علىّ الدكتور النجار، وقال إنه طلبنى لأنه لم يطق الانتظار، لأنه قرأ فى «روح الإسلام» كل ما كان يريده وطلب السماح له بطبع الكتاب، وبعد هذا عين جمال البنا مستشارًا من مستشارى الاتحاد الدولى للبنوك الإسلامية الذى كان هو أمينه العام وروحه المحرك بمكافأة مائتى جنيه شهريًا، وكان بين آونة وأخرى يحول عليه ورقة أو مشروعًا لإبداء الرأى، وعندما أراد تكوين معهد للبنوك الإسلامية فى قبرص التركية جمع نخبة ممتازة من الفنيين الذين تتوفر فيهم الفنية والإيمان، وكان جمال البنا أحدهم، وعكفوا فى جلسات متصلة لمدة أسبوعين، كما ذهبت اللجنة إلى قبرص التركية لمعاينة المكان.

وظلت صداقة جمال البنا بالدكتور النجار متصلة، وكتب هو مقدمة كتابه الهام عن البنوك الإسلامية، ولكن الرجل مات متأثرًا برحلاته المتوالية وما تعرض له فى سنواته الأخيرة من معارضة جعلته يرفع قضية على بنك فيصل مع أنه كان هو أكبر مؤسسيه ووعد جمال البنا بأنه إذا كسب القضية فسيتبرع بجزء كبير منها لمشروعاتنا وتوفى قبل إنهاء القضية التى سقطت بوفاته.

هل لم يكن للإسلام نصيب فى هذه الرحلة الثقافية الطويلة من الثلاثينيات حتى السبعينيات؟ بالطبع وجد، فالإسلام كان أحد الجذور التى كونت شخصية ونفسية جمال البنا، وكل الاهتمام به فى هذه المرحلة أيضًا بالدرجة الأولى على التاريخ الإسلامى وكان فى مكتب والد جمال البنا عدد من النسخ من كتاب «البداية والنهاية» يبدو أن إحدى المكتبات قدمتها للشيخ مقابل بعض نسخ «المسند»، وكتاب «الكامل» لابن الأثير، وتاريخ الطبرى، و«الإمامة والسياسة» لابن قتيبة، فقرأه، وكان من الكتب المتوسطة الحجم عن التاريخ الإسلامى كتاب باسم «حماة الإسلام» تأليف الكاتب السورى رفيق العظم وكان من الكتب المقررة فى دراسات الإخوان، وقرأ جمال البنا كتب الشيخ أبو زهرة كلها، وقبلها كان قرأ أول من كتب من الشيوخ عن التاريخ الإسلامى وهو الشيخ عبدالوهاب النجار الذى أصدر كتابه عن تاريخ الخلفاء الراشدين ولا يمكن حصر الكتب التى قرأها عن التاريخ الإسلامى.

ولكن أهم من هذا أن جمال البنا ظل وثيق الصلة بالقرآن، وكان يقرؤه المرة تلو المرة ويحفظ بعض سـوره، ولكنه لم يكن موهوبًا فى الحفظ، وكانت تلك هى إحدى نقط الضعف فى جمال البنا كمحاضر إسلامى، فما لم يرصع المحاضر كلمته بآيات من القرآن يجيد حفظها وتلاوتها فإن المحاضرة تفقد طابعها الإسلامى.

ويدل كتاب «مسئولية الانحلال بين الشعوب والقادة كما يوضحها القرآن الكريم» الذى صدر سنة 1952 على العلاقة الوثيقة ما بين جمال البنا والقرآن الكريم.

وعُنى جمال البنا بدراسة أصول الفقه، ولكنه لم يحاول أن يدرس «الفقه« أى القضايا الفرعية والجزئية لأنها تمثل أحكام الفقهاء، وكان جمال البنا يرى أن الفقهاء أبناء عصرهم من ناحية، ومقننى الدولة التى كانت قد وصلت إلى مستوى الإمبراطورية، وكان هذا يبعدهم عن عالم القرآن والرسول.

كان جمال البنا قد تبين أن من الضرورى له أن يحكم الإنجليزية حتى يستطيع الإلمام بالمراجع بلغتها، وكان قد قابل الأستاذ محمود حسنى العرابى، الزعيم العمالى والسكرتير العام لاتحاد النقابات فى العشرينيات من القرن الماضى الذى اتجه اتجاهًا شيوعيًا وأوفد إلى موسكو ليطلب انضمام الاتحاد المصرى للكومنترن الأممية العمالية التى أسسها لينين لينافس بها بقايا الدولية الثانية التى مزقتها الحرب العالمية الأولى، وكان محمود حسنى العرابى هو الزعيم العمالى المصرى الوحيد الذى قابل لينين، وأصر لينين على تطبيق النقاط الـ 21 التى وضعها لقبول عضوية الكومنترن، وكانت تقضى بأن يقوم التنظيم العمالى بإضرابات ومظاهرات مناصرة للاتحاد السوفيتى الوليد، وأوضح حسنى العرابى للينين الظرف الخاص، وأن مصر الآن تقوم بثورة شعبية يرأسها حزب الوفد، وإن أى مظاهرة ضده ستقضى على اتحاد العمال، ولكن لينين أصر، وعاد حسنى العرابى بأوامر لينين وبدأ فى تطبيقها الاتحاد، وكان فى هذا نهايته، ليس هذا هو المهم، فالحديث ذو شجون، المهم أن جمال البنا فى إحدى منعطفاته العمالية قابل الأستاذ حسنى العرابى وكان جمال البنا قد قرأ ترجمته لكتاب ماكدونالد عن الاشتراكية، وسأله كيف أحكم الإنجليزية، فضحك وقال «بالقوة»، ووضح ذلك أنه تعلمها بجهده الخاص وبعد كفاح عدة سنين، ورأى جمال البنا أن عليه أن يسلك الطريق نفسه وكافح عددًا من السنين حتى لانت له اللغة وبدأ يتفهم سطور الكتب، فى هذه الفترة كانت المعسكرات البريطانية فى الإسماعيلية وفايد وغيرها تستغنى عن كتبها التى كانت توفرها لجنودها، وامتلأت أسوار حديقة الأزبكية السوق الشعبى للكتب بمئات النسخ من الكتب الإنجليزية التى كان يصدرها نادى الكتاب اليسارى Left Book Club، وكانت تصدر بطبعات شعبية بغلاف أحمر مكتوب عليه «لا يباع للجمهور» وكانت الأربعينيات هى إحدى فترات ازدهار الفكر الاشتراكى والعمالى فى بريطانيا، وتمكن حزب العمال من نيل الأغلبية فى مجلس العموم وتكوين الوزارة سنة 1945، وكانت كلها سياسية اشتراكية الاتجاه، بالإضافة إلى آلاف الطبعات من طبعة «بنجوين» و«بليكان» الشعبية، وكان جمال البنا زبونـًا دائمًا ويوميًا لسور الأزبكية يعرفه كل بائعيها، وكان يشترى كل يوم عددًا منها بما لا يزيد على خمسة قروش وربما أقل للكتاب، وكانت هذه الكتب هى أساس المكتبة الإنجليزية لجمال البنا التى بلغت ثلاثة آلاف كتاب.

على أن سور الأزبكية كان يعرض أحياناً أعظم المراجع الكلاسيكية أهمية لأنه كان يشترى مكتبات العلماء بعد وفاتهم، وفى إحدى المرات ذكروا لجمال البنا أنهم سيشترون مكتبة الدكتور لهيطة وكان يعرفها عندما زاره بمنزله، وكان الدكتور لهيطة قد نال الدكتوراه من جامعة ليدز فى العشرينيات عن موضوع عمالى، فأكد عليهم جمال البنا إخطاره بمجرد شرائهم لها، وقد كان، فأسرع جمال البنا واشترى مجموعة ثمينة ولا تعوض عن الاقتصاد البريطانى والاشتراكى منها كتاب «رأس المال» لماركس وعددًا آخر من الكتب اليسارية والعمالية وكثيرًا ما أحس الندم لأنه لم يشتر بعض الكتب للاختلاف فى ثمنها ببضعة قروش.

ويذكر جمال البنا أنه قد مر على السور فرأى كتابًا عن الحركة العمالية الأمريكية خلال الفترة من 1940 إلى 1945 وكان كتابًا ضخمًا فى 700 صفحة، فلما اشتطوا فى ثمنه قال لهم إن هذا الكتاب لا يمكن أن يشتريه إلا شخص واحد يدعى أمين عز الدين إذا وقع بصره عليه وهيهات، ولكن حدث بالفعل أن كان أمين عز الدين يمر على السور وكان هذا من عادته ورأى الكتاب فوقف عنده ولما اشتطوا فى الثمن قال لهم إن كتابكم هذا لا يمكن أن يشتريه إلا شخص واحد هو جمال البنا وتركه لأنه رغم أنه كان أكثر المفكرين المعنيين بقضية العمل والنقابات فإن وقته كان مزدحمًا ولم يكن مستعدًا لقراءة 700 صفحة عن الحركة العمالية فى أمريكا خلال خمس سنوات، ولكن جمال البنا كان يضع كتابه المشهور عن الحركة العمالية فى أمريكا، ولهذا عاد إلى السور ليجد الكتاب وليشتريه فى النهاية.

كان إقبال جمال البنا على تعلم الإنجليزية نفعيًا خالصًا، بمعنى أنه لم يتعلمها للاستمتاع بالبلاغة الإنجليزية أى شكسبير وبقية الشعراء والأدباء، ولكن ليفك طلاسم اللغة وليتعرف على مراجعه فى الاقتصاد والحضارة والتاريخ والحركات الشعبية.. إلخ، وظل حتى الآن لا يتذوق الأدب الإنجليزى، بل لا يتكلم بطلاقة اللغة الإنجليزية، كانت إنجليزيته إنجليزية قارئ لا إنجليزية متحدث.

ولا يمكن حصر الكتب الإنجليزية التى قرأها جمال البنا فى الخمسينيات والستينيات، ويمكن القول إنه فى الأربعينيات والخمسينيات كان يقــرأ كتابًا إنجليزيًا كل يومين أو ثلاثة، ومكتبته الإنجليزية تضم ثلاثة آلاف كتاب، الكثير يحمل توقيعه وتاريخ شـرائه وبعض التأشيرات، إن إصداره لعدد من الكتب عن الحركة النقابية فى بريطانيا والحركة النقابية فى الولايات المتحدة، وكذلك كتابه عن «ظهور وسقوط جمهورية فايمار» وإحساسه العميق عن ضرورة الإتقان والإحاطة بكل صغيرة وكبيرة، وأنه قد لا يستفيد من كتاب ما إلا من بضعة صفحات أو سطور، وفكرته عن أن الحركة النقابية هى جزء لا يتجزأ من مجتمعها، ولا يمكن فهمها إلا بعد فهم هذا المجتمع بسياساته واقتصاداته وخلفياته الحضارية، فهذا كله جعله يغوص فى أعماق المراجع والكتب عن بريطانيا وأمريكا وألمانيا والاتحاد السوفيتى بوجه خاص، وكان جمال البنا يفكر فى تأليف كتاب عن الاتحاد السوفيتى بعنوان «المخاض الدموى وظهور الاتحاد السوفيتى» يماثل كتاب «فايمار» وكذلك كتاب عن تركيا بعد الحرب العالمية الأولى، وكانت هذه الدول روسيا وألمانيا وتركيا هى الدول التى حكمت عليها الحرب العالمية الأولى بالهزيمة، وكان عليها أن تعمل لاستعادة كيانها وجاءت الفكرة بعد هزيمة مصر سنة 1967 لضرب المثل لعدم الاستسلام لليأس بعد الهزيمة، وأخذ جمال البنا يستعيد تاريخ روسيا من القرون الوسطى حتى مشارف العصر، واشترى قرابة ثلاثمائة كتاب وضعها فى «مكتبة خاصة» وتصفح الكثير منها ووضع الهيكل العام.. إلخ، ولكن «جمح الزمان» وظهرت اهتمامات أولى، وبهذا استبعد جمال البنا فكرة إصداره ولم يضع ما قرأه هدرًا، فإنه زود جمال البنا بثقافة شاملة عن «روسيا» ثم عن «لينين» بطل ثورة 17 أكتوبر، وكان من أفضل ما استفاده تعرفه على الكاتب إسحق دوتشر وثلاثيته عن تروتسكى وكتاباته عن لينين وثورة أكتوبر، وكان جمال البنا يرى أنه من الضرورى لكل مثقف فى العصر الحديث، بما فى ذلك المثقف الإسلامى أن يدرس الحركة الاشتراكية منذ أن فكر فيها «روبرت أوين» حتى أحكمها ماركس فى نظريته، وحتى حققها لينين بطريقته الخاصة، وبقدر ما أعجب بمرحلتها «العذرية» الإنسانية الأولى بقدر ما ضاق بالطوق الحديدى الذى طوقها به ماركس وبالأسلوب الديكتاتورى الرافض لكل حرية الذى طبعها به لينين، ولكنه مع ذلك يفهم تجاوب كل المفكرين الإنسانيين الأوروبيين معها باعتبارها نظرية للعدالة وللجماهير، لعدم قيام الكنيسة كحامية للعدالة والإنسان، ولأن المجتمع الأوروبى لم يكن لديه فكرة عما جاء به الإسلام، كما استبعد جمال البنا إصدار كتاب تركيا، ولو قدر لهذين الكتابين أن يصدرا، وأن يكونا على غرار «فايمار» لقدما إضافة متميزة فى الأدب السياسى.

غرست هذه الروافد بعض المبادئ المحورية والرئيسية فى فكر جمال البنا، مثل فكرة الحرية فى مجال الفكر والمعارضة السياسية، ومثل العـدل فى مجال العلاقات بين الحاكم والمحكوم، الرجل والمرأة، الغنى والفقير، ومثل تقدير العمل الشعبى وكل الصور التى تأخذه وأبرزها الحركة النقابية وتحرير المرأة، كما كان يرى فى القيم والمعرفة نورًا وقوة، وأعطته آفاقـًا فسيحة وعديدة للعمل السياسى ونهضة الشعوب والجماعات، ولكن أهم هذه الأفكار هو «الإنسان»، إن الإنسان هو الغاية، وكل ما عداه وسائل.

كانت السينما أعنى السينما الأمريكية من الروافد الأوروبية التى أسهمت فى تكوين ثقافة جمال البنا، لقد كانت النافذة التى مكنت جمال البنا أن يرى المجتمع الأمريكى مصورًا بعد أن قرأه مكتوبًا، وفى هذه الفترة الأربعينيات كانت هوليود نشطة وكانت تعج بالنجوم والأبطال مثل جوان كروفورد وجريتا جاربو ولانا تيرنر وجين هاريو وكولديت كوليير وكاترين هيبورن (التى كانوا يطلقون عليها أقبح الجميلات)، وكانت ممثلة قديرة وآخرهن ريتا هيوارث، ومن الرجال سبنسر تراسى وكارى جرانت وكلارك جيبل، وكانت معظم الروايات رومانتيكية بعيدة عن العنف باستثناء الروايات التى صورت الحرب اليابانية/الأمريكية وقيادة ماك آرثر، ولكن لم تكن أفلام العنف هى السائدة، ومن الأفلام التى استمتع بها جمال البنا فيلم «أعظم استعراض فى العالم» الذى أدت دور البطولة فيه بيتى هاتون، و«جسر واترلو« ورواية تولستوى «آنا كارنينا».

ولا ينسى جمال البنا أمسية أمضاها فى سينما حديقة الأزبكية التى كانت تعرض حفلاتها الصيفية عند الغروب، فما كان أجمل منظر الغروب الساحر، وما كان أرق النسيم، وكان ثمن التذكرة 6.5 قرش دفعها جمال البنا ليجلس على مائدة مستقلة ويطلب «فواكه بالكريمة» وكان الفيلم هو «نينوتشكا« أحد الأفلام الأخيرة للمبدعة جريتا جاربو، ونينوتشكا رفيقة أوفدها الاتحاد السوفيتى لأمريكا لتبحث عن مجوهرات الأسرة القيصرية التى هُربت إلى هناك بعد مقتل أفرادها، فشاهد الرفيقة وهى تنزل من القطار وتحمل حقيبتها الكبيرة رافضة معونة الحمال وبعض تصرفاتها فى الفندق، وأبرز الفيلم المفارقات بين السلوك السوفيتى والسلوك الرأسمالى، وفى الفندق تقع فى حب بطل القصة الذى يحبها أيضًا ويتعاون معها حتى يعثر على الجواهر المهربة وعندما يقدم إليها بعضها تقول «لا أنها ملك الشعب».

علمت السينما جمال البنا آداب المجتمع وقد سمع فيها لأول مرة كلمة «ضمير اجتماعى» وطريقة الأكل والشرب واللبس والحديث وقربته إلى الأسلوب الأوروبى فى الحياة.. إلخ، كما أتاحت له الاستمتاع بجمال البطلات وإحكام الإخراج واستخدام الألوان الطبيعية التى كانت حدثاً جديدًا، باختصار نقلتـه عبر الشاشة إلى لنــدن ونيويورك وباريس وبقية العوالم قبل أن يطأ بقدمه أرضًا أوروبية سنة 1978 بكثير.

وكان جمال البنا يذهب إلى السينما مرتين فى الأسبوع، عادة فى الحفلة السواريه (9 -12)، وكان يعود بعد منتصف الليل فيفتح باب الشقة بمفتاحه ويجد والدته وقد تركت له عشاءه على المائدة.

أما السينما المصرية فلم يكن لها هذا الإبهار، وأما المسرح فلم يدخله للتعقيدات التى كانت تحوطه، ولأنه لم يتقبل أبدًا الحركات المصطنعة والمواقف التى كان يرى فيها إسقاطاً وابتذالاً كأن يؤدى الرجل دور المرأة والعكس أو الحركات السخيفة لهز الوسط والردفين كما تفعل الراقصات، وفى نظره أن ممثلاً مثل الريحانى لم يحسن التمثيل إلا فى المرحلة الأخيرة من حياته عندما لم يعد يمثل، ولكن يؤدى الدور كما يؤدى الحياة، فأرقى التمثيل هو ما لا يكون فيه تمثيل، هذا شىء لم يفهمه معظم الممثلين الذين نقلوا هذه الصور المتكلفة من الأداء المسرحى إلى السينما عندما تحولت مسرحيات عديدة إلى روايات سينمائية.

وقد استمر جمال البنا زائرًا للسينما حتى الخمسينيات والستينيات عندما انتقل بزوجته إلى مسكن مستقل فى منطقة الظاهر، وكانت قبلاً حيًا يسكنه اليهــود الذين أقاموا به قرابة خمس من دور السينما المتجاورة، ولكنه مع تكاثف المشاغل لم يعد يتردد عليها خاصة بعد ظهور التليفزيون الذى نقل السينما إلى البيت، ولا يكاد يذكر أنه دخل سينما فى العشرين عامًا الأخيرة من عمره، لأن صورة كل شىء تغيرت، صورة جمال البنا وصورة السينما وصورة المجتمع السهل الذى كان يمكن أن تجد السينما قريبة وأن تدفع فيها مبلغاً زهيدًا لا يذكر دون زحام القاهرة وصعوبة المواصلات بما فى ذلك التاكسى وبُعد دور السينما ثم إن أجور تذاكرها أصبحت بالجنيهات وكانت قبلاً ذلك بالقروش.

كان تأثير هذا الرافد من روافد الثقافة الأوروبية أنها قربت جمال البنا من المجتمع الأوروبى، فبعد أن أساغه فكريًا وعقليًا نتيجـة للمطالعة، فإنها نقلته نفسيًا وعاطفيًا ليعايشه مع السينما فترة ما.

وهناك إسهام إضافى هو أنها حققت له قدرًا من الإشباع العاطفى وحصنته إلى حد ما من مضايقات فترة المراهفة والشباب وأنقذته من الكبت الحاد الذى كان المجتمع المصرى التقليدى يفرضه بحيث لم يحس بوطأته.

لمعلوماتك...
1952 صدر كتاب مسئولية الانحلال بين الشعوب والقادة
20 عاماً امتنع البنا خلالها عن زيارة السينما









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة