هنا غزة.. كل شىء يقول هنا غزة المنكوبة والمدمرة، لم يضربها زلزال عنيف أو تسونامى مدمر أو رياح عاتية، وإنما كانت ضحية عدوان إسرائيلى فى ظل تواطؤ عربى وعالمى رسميين أتى على الأخضر واليابس فيها.. وحين تمر فى غزة وأحيائها، فإنك لن تشاهد سوى الدمار الذى فعلته آلة الحرب الإسرائيلية ولم تتصوره مخيلتك، فتشاهد بعينيك حجم الدمار، وتسمع أحاديث الناس وقصصا تقشعر لها الأبدان، فأحدهم مثلاً يشير إلى مكان منزله، والذى استطاع تحديده بصعوبة، ويقول كان هنا منزلنا، وآخر هنا كانت بناية، وهنا كان مسجد نصلى فيه وهناك السوق التى كنا نتسوق منها، وآخر يقول هذه الجامعة التى أدرس فيها، بعض تلك الأماكن والمنازل أصبح أثراً بعد عين والبقية لن تجد لها أصلاً أثراً، ولم يبقَ سوى شيئين اثنين وأولهما رصيد فى بنك الشعب لا يمكن سرقته أو القضاء عليه مهما كان السلاح ومتمثل هذا الشىء بإرادتهم القوية وإيمانهم الراسخ بالله وبحقوقهم ، والآخر هو ذكريات وقصص أليمة من الصعب محوها من ذاكرتهم.
مساجد مهدمة وأخرى بلا قباب.. ومنازل بلا أثر
حين تتجول فى مناطق قطاع غزة كافة، فإنك تجد معظم المساجد إما مهدمة بشكل كلى بسبب قصفها من قبل الطيران الحربى أو متضررة بشكل جزئى أو تجدها بلا قباب، ففى هذه الحرب عمد الطيران الحربى الإسرائيلى إلى قصف المساجد بشكل متعمد وهمجى وبلا سبب واقعى... وفى ظاهرة أخرى فقد تجد منازل وبنايات هدمت ولما يبقى لها أى أثر على وجه الأرض، وأخرى دفنت تحت الأرض بسبب قوة الصواريخ التى أطلقت إليها.
قتل بالجملة
نعم.. إنه القتل بالجملة وبلا رحمة كانت طريقة القتل السهلة والمتبعة من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلى فى حربها الشعواء على غزة ، حيث قتل فى حرب غزة عائلات بأكملها، إما تحت أنقاض منازلها أو فى شارع كانوا يتخذونه طريقاً للهرب من عدو لا يفرق بين طفل وكبير وبين مدنى وعسكرى أو فى مدرسة كانت مأوى ومن المفترض أن تكون مكاناً أميناً على حياته.
الطفلة دلال أبو عيشة لم يتبقَ من عائلتها سواها، فكان قدر الله أن تكون عند بيت جدها أثناء قصف منزل أهلها، فاستشهد والداها وإخوتها الثلاثة وبقيت هى مكلومة وحيدة، إلا من رحمة الله ومن ثم عطف وحنان جديها ، أما عائلة "السمونى" فارتكب بحقها مجزرة مروعة كانت خير دليل على أن جيش الاحتلال كان يستهدف وبشكل عشوائى كل شيء وأى شخص دون استثناء حتى لو كان رضيعاً لا حول له ولا قوة، راح ضحية هذه المجزرة حوالى ثلاثين شخصاً من عائلة "السمونى"، والأغرب من ذلك كله أن جيش الاحتلال الإسرائيلى حينما قام بقتل أفراد العائلة لم يسمح فى بداية الأمر لذهاب سيارات الإسعاف لانتشال الشهداء والجرحى، وإنما قام بهدم البيت على من فيه من جرحى وشهداء كعدد كبير من العائلات، فكانت دليلاً على القسوة اللامتناهية لهذا الاحتلال وجيشه... وهذه المجازر تركت الحزن والأسى فى قلوب من بقى من تلك العائلات إلى جانب إيمان قوى وعزيمة لا تلين.
من يوميات الحرب
"كنا لا نصدق حينما يطلع النهار علينا"، هكذا كان رد الحاجة أم محمد التى تقطن فى مدينة غزة لتدلل على قسوة وشدة القصف أثناء الليل، والذى يشعر المواطنون بأنهم لن ينجو من موت يمكن أن يكون محققاً، فكانت ليالى قطاع غزة حالكة بكل ما للكلمة من معنى، وتتابع أم محمد الذى استشهد لها حفيدان وإصابة ثالث فى هذه الحرب بقصف منزلهم بقولها "طوال الليل لم نكن ننام أبداً لشدة خوفنا ولقوة تلك الأصوات الناتجة عن القصف البرى والجوى والبحرى، وإذا ما نمنا ساعة أو اثنين من تعبنا ننطق الشهادتين ومن ثم ننام"، هذا حال الليل، أما النهار فلم يكن يختلف عنه كثيراً، فالقصف قصف والقتل قتل والعالم هو نفسه الذى يتفرج على كل ذلك.
الكهرباء كانت طيلة أيام الحرب ضيفاً عزيزاً قليلاً ما كان يزور أهالى القطاع، ولا يختلف حال مياه الشرب عنها، كل شىء مفقود حتى السماء الهادئة والهواء النقى.
جيش الاحتلال الإسرائيلى... بلا أخلاق
حين نتحدث عن جيش نظامى لأى دولة ما، فإننا نتحدث عن جيش يجب أن يحترم الأعراف والقوانين الدولية ويحمى المدنيين ويحترمهم أيام الحرب، إلا جيش دولة الاحتلال الإسرائيلى، فإنه من أكثر الجيوش الذى يشذ عن تلك القاعدة والقوانين، والذى كان يعتبر عدوه الأول هم المدنيون وحتى الشجر والحجر، بدليل كل تلك الجرائم التى اقترفها بحق المدنيين العزل على عكس ما كان يصرح قادة حكومة الاحتلال، بأنهم لا يستهدفون المدنيين، فكان يقوم بقتل كل شىء حى، وعدا ذلك فكانت له ممارسات تدعو إلى الاشمئزاز داخل بيوت المدنيين التى احتلها فى حيى الزيتون والعطاطرة، وفى هذا يقول محمد النجار، وهو أحد سكان منطقة العطاطرة شمال قطاع غزة "لقد كان جنود الاحتلال الإسرائيلى الذين دخلوا بيوتنا يستخدمون أوانى المطبخ للتبول بها وأيضا على ( أسرة النوم) "، وأيضا فى هذا الإطار فقد وجد المواطنون داخل بيوتهم التى احتلت من قبل جنود الاحتلال ملابس داخلية للجنود والمجندات الإسرائيليين تدل على أنهم كانوا يجامعون بعضهم داخل بيوت المواطنين .
فإن جيش الاحتلال الإسرائيلى له تجاوزات إلى أبعد الحدود، فقد قام باستهداف أماكن كفل لها القانون الدولى الحماية بشكل واضح كالمستشفيات والمدارس، فقد قام بقصف وحرق مستشفى القدس والهلال الأحمر الفلسطينى ومستودع الأدوية التابع لهما فى حى تل الهوى وسط مدينة غزة، وكان بداخل المستشفى عدد كبير من الأطباء والمرضى والمصابين، فلم يكترث بذلك حالها حال مدرسة الفاخورة التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين(الأونروا) والتى اقترف بداخلها مجزرة كبيرة راح ضحيتها عشرات ما بين شهيد وجريح من المدنيين الذين لجأوا إليها، وعدد من المدارس هرباً من آتون الحرب... ولا ننسى أن جيش الاحتلال الإسرائيلى استخدم فى هذه الحرب أسلحة ما لم تستخدمها جيوش ضد بعضها البعض بشهادة أجانب جاءوا إلى الاطلاع على أوضاع غزة، وأطباء عرب جاءوا إلى غزة للمساعدة فى المستشفيات، وتلك الأسلحة منها القنابل التى تحتوى على مادة الفوسفور الأبيض الكيماوية الحارقة والمسرطنة، وأيضا استخدم قنابل القنابل الارتجاجية التى تحدث دماراً ليس طبيعياً فى منازل ومقدرات المواطنين.
حال قطاع غزة ما بعد الحرب.. وأمنيات المواطن
خرج قطاع غزة من هذه الحرب منهك القوى، فبعد قصف مقار المؤسسات الحكومية كافة وعدد من المؤسسات الخيرية والمستشفيات وحتى الأماكن العامة كالمتنزهات، فإن الحرب قد تركت فى قلوب وعقول الناس ذكريات أليمة لا يمحوها الدهر كله.
وقد يكون أقصى ما يتمناه الآن الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة، هو الهدوء والأمان فقط لا أكثر ولا أقل كما يقول المواطن من مدينة غزة يوسف عبد الجواد، والذى يعمل سائق تاكسى "نأمل أن تستمر الهدنة بيننا وبين الإسرائيليين، لأن الحرب أنهكتنا جميعا وحتى الإسرائيليين"، كما وتمنى أن يكون الحال مع الرئيس الأمريكى باراك أوباما يختلف عن خلفه جورج من جهة سياسته وطريقة تعامله مع القضية الفلسطينية رغم ما وصفه بداية انزلاق أوباما إلى الطريق التى كان يسلكها بوش من ناحية تأييده لإسرائيل.
إذن ومع كل تلك المعطيات وكل ما حدث فى غزة من دمار وخراب، هل سيتم إعادة إعمار غزة؟ متى وكيف وتحت أى ضمانات؟ أم أن قدر غزة تنتظر جولات من الحرب لترتبط ذاكرتها بيوميات الخراب؟ وهل هى حرب أم بداية شطب لغزة؟ وهل أدرك الإسرائيليون أن شطب غزة هو من سابع المستحيلات؟... أسئلة تحتاج إجابة وقد تجيب عليها الأيام المقبلة.
محمد عثمان يكتب من قطاع غزة: حرب غزة.. تجاوزات إسرائيلية إلى أبعد الحدود
الأحد، 01 فبراير 2009 11:14 ص