تذكرت هذا المشهد العبقرى للفنان المخرج الجميل عاطف الطيب فى رائعته "البرىء"، ذلك المشهد الذى يطارد فيه الجندى أحمد سبع الليل مسجونا سياسيا هاربا، وقد أفهموا هذا الجندى أن هذا الكاتب المعارض المسجون سياسيا هو من أعداء الوطن، فيسارع بضربه حتى الموت، وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة يصرخ المسجون السياسى فى وجه هذا الجندى صارخا "أنت مش فاهم حاجة.. إنت حمار".
تذكرت هذا المشهد وأنا أتابع ما يجرى فى الأسابيع الماضية وحالة العبث واللامعقولية التى يموج بها الإعلام والشارع المصرى سويا فى التفاعل مع مباراة كرة قدم، وما تبعها من تداعيات، ويتم فيها العبث بمقدرات الأوطان لحسابات خاصة أبعد ما تكون عن ما يتم إدعاؤه من أنها حالة وطنية خالصة، وحس وطنى رفيع. أين هذه الوطنية وهذا الولاء فى ظل مناخ اختلطت فيه السياسة بالدين، فأفرز لنا هذا النوع وهذه التركيبة من الفساد (ودليلنا فى ذلك تقرير الشفافية الدولية وترتيب مصر فيها)، فى نفس الوقت الذى يتحدثون عن ترتيب مصر فى مجموعتها فى تصفيات كرة القدم وفرصها للوصول لكأس العالم.
ثم تختلط السياسة بالرياضة، والرياضة بالدين، فأصبح جل إنجازنا ومشروعنا السياسى هو الوصول بمنتخب كرة قدم لنهائيات كأس العالم، والأهم من كل هذا ولكى يتحقق ذلك هو "دعواتكم يا مصريين".. ما هذا العبث بعد كل هذا التدين الزائف وممارسة طقوس حسب المذهب الوهابى أفقدتنا الكثير من ملامح الشخصية المصرية، يتشدق الجميع بوطنية زائفة ودليلهم فى ذلك أعلام مصرية مرفوعة. فى مسألة الحس الوطنى والانتماء الذى تأجج فى ظل هذا المشهد السياسى العبثى الممتد منذ سنوات طويلة نذكر ونتذكر الجمهور المحتشد داخل الاستاد وأمام الشاشات منشغل بمتابعة نهائيات كأس أفريقيا بالقاهرة فى فبراير 2006، وفى نفس الوقت الذى ينفذ فيه مشهد كارثة العبارة وبنفس الفساد، وتهلل الجماهير الكروية، ويبكى أهالى المفقودين.
أما عن الوفود الإعلامية والفنية والتى خصصت لها طائرات تم الإعلان عنها بعد المباراة الأولى فى سابقة هى الأولى من نوعها، وكان الحدث هو مهرجان فنى كبير تفرش فيه السجاجيد الحمراء، فهذا وضع آخر يدعو للذهول والاستفزاز، ولكنه فى نفس الوقت يدعو للفهم والاستبيان عن حقيقة هذا المهرجان المسمى بالوطنى، وهو فى حقيقته تجميل نظام سياسى، وضخ شرعية كروية فى شرايينه لكى يبعث من جديد بوريث جديد.
يزج وطن بأكمله لكى يزف نظام جديد تعرفون ملامحه بالطبع. ويكتب كتابنا ومثقفينا من منطق المشجع الكروى ويتم خلط الأوراق، ويكثر الحديث عن كرامة المصرى واستعادتها.. الآن فقط بعد أن عفرت وجوهم بالتراب ولم تفرش لهم السجاجيد الحمراء.
والمطلوب من أحمد سبع الليل أن يدافع لاستعادة هذه الكرامة المسلوبة ضد أعداء الوطن الذين صنعوهم فى عقله فقط.
* باحث سياسى فى الشئون الأفريقية