لا أتفق مطلقا مع الأصوات التى تروج لأن ما حدث فى الخرطوم وتغطيته من قبل الإعلام المصرى مبالغ فيها من أجل دعم التوريث، ليس فقط لأنه لم يعد بحاجة لتمثيليات بل لأن ما حدث فعلا ضده، فبعد الهزيمة فى المباراة ليس من مصلحتهم إدعاء إهانة مصر وضرب المصريين فى وجود رئيس لجنة السياسات، لأن هذا إن دل على شىء، فيدل على ما هو سلبى، فيكفى أن كل هذا حدث فى حضوره، خاصة وأنه لم يصدر عنه أى رد فعل يذكر، وكانت لديه فرصة ذهبية للتحول لبطل شعبى، ولكن تلك الفرصة تبخرت تماما خاصة مع الظهور الإعلامى لعلاء مبارك واجتذابه الأضواء عندما تحدث بانفعال المواطن العادى، فعبر عن الناس وأراح صدورها، ولكنه دفع الجميع للمقارنة- لا إراديا- بالرغم من إعلانه مرارا أنه لا يطمع فى أى منصب سياسى ولا مؤهل له.
تابعت تغطية معظم القنوات والصحف، وأرى أن الموضوع ليس قضية كرامة فقط، لأن بالفعل كرامة المصريين تم التساهل فى إهدارها فى الداخل قبل الخارج كثيرا، وعلى مر ثلاثة عقود ولم نر كل هذا الحشد الإعلامى، ولكن ما حدث كان استهدافا لكرامة المصريين وهيبة النظام السياسى فى نفس الوقت من قبل نظام سياسى آخر، ولم تكن حادثة صغيرة، بل كان الأمر على نطاق واسع، حيث كان اعتداء على الآلاف فى وجود ممثلى الحزب الحاكم ومجلس الشعب ونخبة من المثقفين، وهذا هو الجديد.
قد يكون عاديا ومقبولا وجود مشجعين كرة متعصبين من الطرفين، وبالتالى مفهوم أن فى آخر مباراة لعبها المنتخب المصرى فى الجزائر تعرض لاعبوه للحجارة والشماريخ، ومتوقع أيضا أنه عندما يأتى المنتخب الجزائرى وارد أن يجد متعصبون كوره فى مصر أيضا يقذفون حافلته بالحجارة، وأيضا منطقى أن يشتبك مشجعو الطرفين، وفى القاهرة هناك محاضر كثيرة ضد مشجعين جزائريين والعكس.
كل هذا يدخل فى إطار جنون كروى، وأعرف أن حب الجزائريين للكرة قد يكون مختلفا نوعا ما لدرجة أن مائة وعشرين مباراة فى الدورى الجزائرى تلعب بدون جمهور، وأكثر من ثمانية عشر شخصا لقوا مصرعهم فى احتفالات الوصول للمونديال الأخيرة فى الجزائر، كما أن المشجعين المتعصبين لديهم كسروا وأحرقوا فى فرنسا وأسبانيا عندما انهزموا وعندما فازوا أيضا، ولكن كل هذا مفهوم -حتى وإن لم يكن مقبول - من متعصبين كرويا فمنذ بضعة أيام أفردت صحيفة الجارديان تحقيقا كاملا عن تاريخهم العنيف فى التشجيع.
ما لم يكن عاديا وهو ما استوقفنى كثيرا، هو أن يتم الإفراج عن مجرمين مسجلين خطر وعمل جوازات سفر ذات صلاحية عشر أيام فقط لهم وشحنهم مع آخرين تتراوح أعمارهم بين الثامنة عشر والثلاثين على طائرات حربية جزائرية (بدون مقاعد) طراز سى 130 بعدد يفوق سعه الاستاد، وقيامهم لمدة ثلاث أيام قبل المباراة بشراء أسلحة بيضاء، وهذا ما لم تنكره الجزائر!
رئيس الدولة أو وزير الدفاع أو رئيس الوزراء هم فقط من لهم صلاحية تحريك طائرات حربية، إذن فالأمر خرج من كونه مشجعين متعصبين من الطرفين لحرب عصابات منظمة ومدعومة من نظام سياسى تجاه جمهور مدنى أعزل من السلاح، مغدور به، لو عدنا للصحف الجزائرية كصحيفة الأخبار (حكومية) والخبر والشروق والفجر والنهار والهداف سنجد أنهم قاموا بتصعيد وصل لسب مصر وإزالة اسمها من على الخريطة ووضع بدلا منه "مستشفى المجانيين" فى كاريكاتير بالشروق يوم الثالث عشر من نوفمبر، أى قبل مباراة القاهرة، ثم واصلوا بادعاء أكاذيب وافتراءات تحريضية وفبركة أخبار غريبة لدرجة أنه بعد مباراة القاهرة نشروا أن هناك قتلى ونعوشا طائرة من القاهرة ستصل الجزائر، وهذا ما نفاه السفير الجزائرى نفسه ولكن بعد ثلاث أيام، فقد ترك الأمور تزداد لهيبا وكأنه أراد المشاركة فى شحن الجمهور الجزائرى لهدف فى نفس يعقوب.
الإعلام المصرى عموما وبالرغم من أى تحفظ عليه كان غارقا فى الأغانى الحماسية والأحلام الوردية، وتجاهل فى البداية عدم مهنيتهم وإعلامهم الذى ينضح بالكراهية تجاه مصر ولم يبادلهم "السب والقذف" إلا بعد أحداث الخرطوم، لأنه بدا شيئا منظما ومدعوما وليس مجرد جنون كروى من غوغاء، وليس لدى شك فى شهادات شهود عيان من الشخصيات العامة كوائل الإبراشى وخالد صلاح وريهام سعيد وفرودس عبد الحميد ومفيدة شيحة.
لقد خطط النظام الجزائرى جيداً، وكان أفضل تنظيميا فاهتموا بالتصوير والتوثيق، وقد عكس سوء النية مبكراً رفض روراوة مصافحة سمير زاهر قبل يوم من المباراة عندما بادر بمصالحته قبل المباراة، وقد أذاعت قناة أبوظبى الرياضية تلك المشاهد مع تعليق.."يا للعار يا للعار" من المذيع الخليجى، الذى ضرب كفاً بكف مستنكرا هذا المشهد.
الأمر تعدى كونه اشتباك مشجعين متعصبين ووصل لاستهداف منظم من قبل نظام سياسى، فجاء رد فعل النظام السياسى المصرى فى شكل هجوم إعلامى وتشجيع للتهييج الشعبى، كان الأمر سيكون أكثر هدوءاً، لو بعد أن أقلعت الطائرات الحربية الجزائرية ومقاتلوها عائدة من السودان بعد إتمام مهمتها السياسية، ظهر بعض مثقفى الجزائر أو أى مجموعة هناك وأعلنت بصوت مسموع أن هذا لا يصح، وأن ما فعله النظام من إرسال مقاتلين بوجباتهم المغلفة بغلاف موضح عليه أنها وجبات مقاتل من وزارة الداخلية الجزائرية.. عرضه الإعلامى عمرو أديب.. بالتأكيد لا يمثل الشعب الجزائرى المتحضر من مهندسين وأطباء ومعلمين وفنانين، ولكن هذا لم يحدث بل رأينا أيضا المصريين فى الجزائر يصرخون من التهديدات والحجارة والنيران ويعودون إلى مصر مذعورين بعد أن تم حصارهم ومطاردتهم وسبهم بعد تكسير ونهب مصر للطيران وشركة أوراسكوم والمقاولون العرب وشركة السويدى، وهو ما نتج عنه خسائر بملايين الدولارات، وفقد الكثير من الجزائريين والمصريين لوظائفهم فى تلك الشركات المصرية التى تستثمر فى الجزائر، حيث تعد مصر ثانى أكبر مستثمر أجنبى هناك ويعمل بها أكثر من عشرة آلاف جزائرى، والغريب أن الفيديوهات المنتشرة على اليوتيوب أظهرت الغوغاء، وهم ينهبون الشركات المصرية فى ظل تواجد أمنى جزائرى غير قليل ولكنهم لا يفعلوا شيئا، فى الوقت الذى لم تسمح فيه الشرطة المصرية لأى متهور بالإضرار بأى مبنى جزائرى فى مصر، وهو ما يؤكد دعم النظام السياسى الجزائرى لما يحدث، خاصة فى ظل صمت جميع ممثليه.
عليه أن أعترف أن الخطأ الأساسى- وليس الوحيد بالطبع - للنظام المصرى فى البداية هو اختيار السودان، وهى بلد فقير تعانى حروباً، ويقودها مجرم حرب مطلوب دوليا بحكم المحكمة الدولية، فمن الطبيعى أن يكون أضعف من مواجهة الموقف، أو الاعتراف به حتى لا تسوء صورته وصورة بلده أكثر لأن أى اعتراف بالمشكلة يعد إساءة للسودان واعترافا بفشل ذريع لها وقبولها لانتهاك سيادتها، والأهم أن المصالح تتحدث، حيث إن حجم التعاملات التجارية بين الجزائر والسودان أربع أضعاف تلك التى مع مصر.
بالتأكيد شعب البلدين عموما ضحية تلك الأنظمة، وطبيعى أن يثور المجتمع الجزائرى حينما ينقل له إعلامه أخبارا كاذبة عن قتلى وجرحى، ويصر عليها، ولكن ما أثار المواطن المصرى البسيط ليس السياسة والإعلام، ولكن تحول مشكلة حافلة لاعبين جزائريين فى مصر حدث مثلها مئات المرات للمنتخب المصرى فى الجزائر ثم فى السودان لمعركة تجعل شركات مصرية تدمر وأطفالا ونساء يهددون ويحتجزون، وطائرات حربية محملة ببلطجية تستهدف المدنيين المصريين فى السودان فى ظل صمت الصفوة من الشعب الجزائرى.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة