نصر حامد أبو زيد يكتب عن "محمد صالح"..

"يا محمد مش إنت لوحدك اللى تعبت"

الأربعاء، 30 ديسمبر 2009 10:12 م
"يا محمد مش إنت لوحدك اللى تعبت" د.نصر حامد أبو زيد

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فى أول زيارة لى للوطن بعد غياب سنوات ثمان (1995 ـ 2003) فاجأنى محمد صالح: "خلاص يا ابن أبو زيد متعبتش بقى من حكاية إصلاح الخطاب الدينى دى، وتجديده، ونقده، والمشاكل اللى مدوخ نفسك ومدوخ الناس بيها دى؟ مفيش فايدة يا ابنى من الوش ده، إنت تقدر تغير التاريخ؟ ده تاريخ طويل يا حبيبى، ما ترجع يا ابنى للشعر والأدب والنقد وتعيش بيننا ما أنت كنت بتشعر زى حالتنا فى المحلة وكان شعرك من بطال".

كانت هذه طريقة محمد صالح فى الترحيب والتعبير عن الشوق والمحبة والقلق، لم يكن أبداً يختار العبارات الممهدة، عبارات المناسبات المعروفة البدايات والنهايات.

فى أول تعارفنا فى المحلة الكبرى أوائل الستينيات فى إطار الجمعية الأدبية فى قصر ثقافة المحلة كانت لغته تزعجنى أيما إزعاج، "ما تتكلم زى الخلق يا ابنى" هكذا كنت أزعق فى وجهه أحياناً، فيبتسم يزداد غيظى.. يصاحب كلام محمد غير المعتاد تعابير وجه غير معتادة ـ إغماض عين، اتساع حدقة الأخرى، وابتسامة كنت أحار أيام بدايتنا فى تفسيرها.

أغوتنا القاهرة فهاجرنا إليها فى فترات متقاربة بعد العام 67 محمد صالح وسعيد الكفراوى وأنا، كان جابر عصفور مستقراً فى المدينة، فكان بيته مكان لقائنا وشجارنا معه أو مع بعضنا البعض.

محمد صالح ظل غاوى جر شكل، هذه طريقته فى التواصل "بالطبيعة خلقه ربنا" حين يشبع من مشاكلتك يستغزل بتعليقاته على الأصدقاء المقربين "المحلاوية".

جابر عصفور فى لغة محمد صالح "أخوك جابر" وسعيد الكفراوى دائماً أين الكفرواى، لا أعلم ماذا كانت كنيتى حين يذكرنى فى حديث مع جابر أو سعيد.

محمد كم نفتقدك
محمد صالح الصديق هو هو محمد صالح الشاعر، اللغة المطروقة مطب يتجنبه دائماً، سواء فى كلامه العادى أو فى كتابة القصيدة.

كل قصائد محمد صالح تمر برحلة طويلة من التداول الشفاهى حتى تستقر على صفحة الورق.

كان التداول الشفاهى مختبراً لتنقية القصيدة، المشروع من المألوف والدارج الشعريين، كثير من هذه المشروعات القصائد لم يكتب لها البقاء حتى مرحلة التدوين، يمكن هذا هو محمد صالح الشاعر، البحث عن اللغة التى لا تقول الشعر، بل تتنفسه، تلك هى جوهرة محمد صالح الشعرية، مبسوط يا محمد يا خويا يا ترى أنفع ناقد فى حضور أخويا جابر؟

فى بداية عام 2006 توفى أخى الأصغر محمد عقب فترة مرض حضرها معى محمد صالح من بدايتها، وأنا فى طريقى بجثمان أخى من القاهرة إلى قحافة هاتفت محمد صالح لاختبره لكى يخبر الأصدقاء كلهم، سألنى محمد هو كان عنده كام سنة؟ قلت: ستين، عنده أولاد قصر؟ لا ولد وبنت متزوجان وثالث متخرج من الجامعة ويعمل مع أخيه فى بساطة متناهية قال: هم الفلاحين كده يا نصر يا خويا لما يخلص اللى وراه يكون تعب، وإذا ما تعبش قبلها واتوكل على الله، محمد أخوك عمل اللى عليه.

محمد صالح لم يقل المعتاد: البقية فى حياتك، وشد حيلك، كان الحوار التليفونى أهم عزاء تلقيته.

يا ترى يا محمد أعزى نفسى وأعزى أهلك سامية وعبد الحكيم وأحمد، إزاى؟ أعزى جابر وسعيد وفريد وأبو سعدة والمنسى قنديل وجار النبى الحلو إزاى؟ أعزى كل مثقفى مصر إزاى؟ وأعزى الشعر إزاى؟.

لا يا محمد أنت فلاح تعبت قبل ما تخلص اللى وراك وتعمل اللى عليك، كنت تعبت بعد ما جرى اللى جرى فى "المحروسة" مش أنت لوحدك اللى تعبت، كلنا تعبانين، شايف أخوك جابر وأخوك سعيد بيعملوا إيه؟ بيحاولوا ولو يمسكوا الزمن ويستردوا الجمال.

كلنا بنحاول يا محمد، وكلنا عاوزينك معانا.. طيب مين حيشاكسنا ويستفزنا ويجعل للحياة معنى؟

مستعد يا محمد ارجع للشعر واسيبنى من الوش، على رأيك يعنى أنا صغيّر التاريخ؟ زى كل الفلاحين أنت مكار، كنت بتستفزنى علشان استمر، ولغاية ما يجى دورى مش هبطل.

تعرف ليه يا محمد؟ لأن دى الطريقة الوحيدة علشان تخليك معانا وفى وسطنا يا محلاوى.

محمد افتقادك الفزيقى لا يعوض لكن حضورك دائم.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة