محمد هجرس

..غير المنصُوب عليهم؟!!

الإثنين، 28 ديسمبر 2009 07:17 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
قبل قرابة خمس سنوات، تشرّفت بأن أكون أحد الصحافيين الذين كرمتهم السفارة المصرية فى السعودية، بمناسبة بوم الإعلاميين المصريين الحادى والعشرين.

لم أصدق الكلمات الرقيقة التى كتبت على الدرع التذكارى، من أن سبب التكريم يعود لـ"الخدمات الجليلة" التى قدمتها إلى بلدى مصر (!!) وفى كلمتى باسم المكرمين داعبت السفير الرائع والخلوق محمود عوف، والمستشار الإعلامى السابق الصديق شعيب عبد الفتاح، بالقول إن الخدمة الجليلة التى قدمتها لبلدى، هى أن تركتها وهاجرت، وفرت عليها عناء مواطن إضافى يرهقها فى طابور من أجل رغيف الخبز، أو يثقل عليها بحثا عن مكان فى أتوبيس يئن بمتسلقيه، أو يكلفها مزيداً من شبكات الصرف الصحى!

وبين تصفيق الحضور، أضفت: إن الخدمة الجليلة الأخرى، هى تلك الحفنة من الدولارات التى أحوّلها شهريا، للإنفاق على أسرة قدرها أن تظل على أرض مصر، ولا تلحق بعائلها فى الخارج!

تذكرت هذه الكلمات، وأنا أقارن حالى بعد أكثر من عشرين عاماً فى بلاد الله الواسعة، وحمدت ربى على أن مصيرى الذى حسمته مبكراً، لم يكن قد عرف بعد، رحلات الانتحار الجماعى على شواطئ أوروبا الجنوبية ليستقر حلم الشباب فى بطن حيتان وأسماك البحر الأبيض، أو أن يتحول العدو الإسرائيلى يوماً إلى جنّة تستقطب أكثر من 40 ألف شاب مصرى مسكين! نسوا ذكريات الحروب، وتضحيات الشهداء تحت وطأة ظلم اجتماعى حوّل العدو إلى صديق و"نسيب" أيضاً!

تذكرت هذه الكلمات، وأنا أستدعى كل شجاعتى، حينما تضيع تحويشة عمر بين أصابع نصّابة، قبل ستة أشهر، حينما أحاول تحقيق حلم أبنائى فى علبة اسمها شقة ترى موج البحر، بالقرب من شاطئ ميامى بمدينة الإسكندرية، ولا تدرى أن هذه الأمواج ستبتلعها دون شفقة، بأوراق مزورة، وفى عملية نصبٍ لا يشفق عليها أحد. بل ربما يشمت فيها كثيرون!

وعندما يكتشف "أهبل" مثلى أنه لا يفهم قوانين العيش فى بلده، التى أصبح فيها واحداً من الجالية المصرية ليس فى الغربة، لكن فى نفس وطنه الأم.. بعد أقل من 21 يوماً فقط وعلى يد محضر، يخبره بأن الشقة التى اشتراها بدمه وبعرق السنين، ولا يزال مديوناً لأنه استكمل ثمنها من بعض أصدقائه، وغيّر عدّاد الكهرباء بها باسمه، وأدخل إليها عداد المياه، والتليفون.. أنما تعود لشخص آخر رفع عليه دعوى كسر بابها، واغتصابها وتبديد منقولاتها، وليدخل فى دوامات قانونية، يدخل على إثرها قسم شرطة، وهو الذى لم يدخله يوماً فى وطنه أو فى بلاد الغربة، ويكتشف أن كل العقود التى بيده مزورة، ولا أساس لها، بمشاركة بوّاب له سابقتا سرقة، ومهندسة زراعية بمهنة تاجرة شقق ونصابة، وزوج عرفى وقت اللزوم ليقضى وطراً.

كان من الممكن ساعتها، أن يتحول المرء إلى مجرم محترف، ليأخذ حقه دونما حاجة لواسطة، أو معرفة، لكن شخص مثلى يحترم القانون، ويحرص على أن يعطى للدولة مالها دون تذمر، ويدافع عنها، ويشرفها عبر نموذجه الذى يلقى الاحترام خارجها.

كان من الممكن أن يبحث المرء عن واسطة، أو شخص له نفوذ، لكن الإيمان بالقانون، وبالعدالة يدفعه لسلوك الطرق القانونية، وتسليم الشقة لصاحبها بمجرد حكم تمكينه منها، ولم يكن ينتظر فقط سوى حقه الذى دفعه وعقاب من نصب عليه.

واحتراماً لهذا القانون كان للنيابة مشكورة إجراءاتها، وتحقيقاتها، والتى أدانت المتهمين من خلال أقوالهم واعترافاتهم، وأصدرت قراراً بحبسهم وعرضهم على المحكمة، " ليأتى فى الأخير الحكم الصاعقة.. يخرج الجميع بالبراءة!!!

نعم؟ هكذا وبدون توضيح للأسباب أو الحيثيات!
...وهكذا تساءل ابنى حازم وهو يكاد ينفجر بكاءً.. ليه؟
ـ أحسست على البعد بدمعته العصية، وهو الذى بعد أشهر قليلة سيتخرج من كلية الهندسة رافضاً الغربة، أو أى وطن آخر غير مصر، التى يريد أن يخدمها فى مجال الكمبيوتر!
ـ أحسست بصوت حسام، وهو الذى يفاخر دوماً عبر دراسته فى كلية الإعلام بجامعة القاهرة، بأن البلد لا ينصلح إلا بالعدل، وأن دور وسائل الإعلام لا بد أن يكون تنويرياً وأن فضح الفساد، لا بد أن يكون على يد قاضٍ عادل!
تنهّدت بحسرة عمرٍ، وبحرقةٍ على شعارات ضاعت، وقيم يبدو أنها لم تكن سوى فى أذهان الواهمين أمثالى وتساءلت: هل يمكن أن أصبح مجرماً وآخذ حقى بيدى؟
هل يمكن أن أتحول إلى نصاب، ينصب على مخاليق الله دون ضمير ودون أن يلقى جزاءه؟
صدقونى..
شكراً لبلدى.. الذى أفقد أبنائى انتماءهم، وجعلنى أتحسّر على أيام وسنوات غربتى، التى كانت كل ثمرتها درع تقديرى وعبارات نحاسية عليها علم مصر، أرفعه أنا فوق رأسى، بينما يدوسه آخرون بالأقدام فى معاملاتهم، وسلوكياتهم!
طيّب.. لماذا سافرت وقد كان بإمكانى أن أكون مليونيراً من إياهم دون حسيب ولا رقيب ولا خوف من خالقٍ أو خَلْق؟
ـ كلها شحنة فراخ فاسدة، أو كيلو هيروين أو تجارة عملة، أو سمسرة فى شقق مفروشة، دون حاجة لبهدلة الغربة!
ـ كلها "بريزة" من تحت الطاولة لتمرير أى مصلحة، وهناك كثيرون مستعدون لـ"شلن مخروم" فقط من كثر الحرمان!
ـ كلها عملية صغيرة، و"شاهد ما شافش حاجة" وإللى يشوف ممكن "يرمش" عينه و"يطنش" وفى الطناش ابتعاد عن الضغط والسكر والقلب وغيره.
ـ كلها عملية اقتراض بسيطة بكذا مليون أو مليار من بنك، ومشروع وهمى، وتذكرة سفر لأى مكان، ولا يهم خبر فقد قيمته فى الجرايد، عن هروب رجل أعمال، ثم بعدها مصالحة مع الحكومة، وإعادة أى مبلغ، ثم يشار لى بالبنان!
بسيطة.. سامحونى، سأصبح منذ اليوم لصاً.. وأخدع غيرى من البسطاء.. وعِدّة النصب موجودة.. مجرد بدلة وكارافتة، واتنين بودى جارد، وسائق يقود سيارة أى حاجة لزوم المنظرة والأهمية.
هكذا يريد لى النظام وهكذا تريد لى الحكومة!
ماذا يهم أن أكون صحفياً أو كاتباً أو شاعراً أو مواطناً صالحاً، طالما أن المهم هو أن يكون لى "فيتامين واو" فى قسم شرطة، أو فى مصلحة حكومية، أو أن أعمل بحكمة الشاعر الراحل نجيب سرور :".... أم المثل، نفّعنى واستنفع"!
***
فى إجازة قصيرة قبل أسبوعين، سمعت إن شاباً ألقى نفسه من أعلى عمارة، ليسقط على الأرض غارقاً فى دمائه، احتجاجاً على ضرائب باهظة فرضت على محله المتواضع، ساعتها سألت: فى رقبة مَن نعلق ذنب هذا الشاب؟
هل يتحمل الوزر الدكتور يوسف بطرس غالى الذى يملأ الفضائيات حالياً لتبرير وتمرير ضريبة الوحدات العقارية؟ أم أن هناك آخرين؟ وإن كنت أخشى أن يطالبنى الوزير بالضريبة إياها على الشقة إياها، عملاً بالحكمة الحكومية "ادفع ثم استأنف"!

تحسست رقبتى فجأة، ونظرت إلى قطراتٍ من الدم نزفت من أنفى إثر الاصطدام بالباب الزجاجى لمبنى الصحيفة التى أعمل بها، وفكرت قليلاً دون أن أمسح هذا الدم.. خاصة وأننى أمام خيارين، هل ألقى بنفسى أنا الآخر من أعلى المبنى بعدما طردت من الشقة التى اشتريتها، وبرأت المحكمة من باعوا لي، ولم يفكر أحد فى إعادة فلوسى.. ودون أن يقول لى أحد: من هو المجرم؟ وأين الجانى؟ أم أتحوّل إلى نصّاب ومجرم أنا الآخر؟
وبما أننى اخترت الحل الأخير.. أجد من الضرورى على كمواطن صالح، أن أتوجه بالشكر للجميع..

الشكر لسيادة الرئيس.. والشكر لجهود الحكومة، ولسعادة رئيس الوزراء، ولمعالى وزير العدل ومعالى وزير الداخلية، شكراً للمسئولين، وشكراً لكل الضباط والقضاة والمحامين.. وشكراً لقيادات الحزب الوطني، ولجنة السياسات، ورئيسى وأعضاء مجلسى الشعب والشورى، ومديرى الأمن، ولكل الذين أقنعونى بأن مصر بكل خير.. وتعيش أزهى عصور الديموقراطية، وأكثر أزمان العدالة والحرية.. والكرامة!
وبهذه المناسبة، دعونى أغنى وأرقص مع الفنانة الرائعة شادية فى أغنيتها الشهيرة: "مصر اليوم فى عيد.."
الحمد لله.. لقد بقيت على قيد الحياة.. وأصبحت مجرماً!
لمَ أنتحر؟!

** صحفى مصرى - جريدة اليوم السعودية





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة