إذا رأيته فى أحد اللقاءات أو الندوات، فستدهشك "بساطته" وستعجب من تلك الابتسامات الصافية التى يوزعها على جميع الحاضرين بعدالة لا تخلو من رقة، الدكتور جلال أمين المفكر الاقتصادى الكبير الذى حصل مؤخرا على جائزة العويس الثقافية عن مجمل إسهاماته، رغم كل العلم الذى يحمله فى رأسه وهذا الكم الهائل من المؤلفات التى حملت اسمه وتنوعت ما بين الفكر والاقتصاد والاجتماع والسياسة، لا يتخلى أبدا عن بساطته وزهده، فتراه يستقل "تاكسيا" يتنقل به فى شوارع العاصمة دون أن ينتبه إلى ضرورة أن يجلس مختالا فى مقعد خلفى من سيارة فارهة كما يفعل غيره من أساتذة الجامعة الأمريكية.
الأغرب أن "أمين" حتى الآن لا يحمل "موبايل" فى يده كما يفعل البسطاء من المصريين، فتجده زاهدا وقد اكتفى بابتسامات يوزعها على قرائه وطلابه أو أعمال يكتبها أو محاضرات يلقيها ولسان حاله يقول "فز بعلم تعش حيا به أبدا.. الناس موتى وأهل العلم أحياء" فيغنيه "علمه" عن الحياة ومباهجها.
جلال أمين الذى لا أستطيع أن أخفى إعجابى به كإنسان تماما كما أقع فى أسر مؤلفاته، يتحلق الشباب من حوله كما يفعل الشيوخ فى حلقات الذكر حين يجلسون إلى شيخهم تحت عموده فى الأزهر، عندما تستمع إلى نقاشه معهم ستظن أنه شاب عشرينى مثلهم، يتجادل معهم برفق دون أن يفرض رأيه ودون أن يشعرهم أنه "المفكر الكبير ذو العلم الغزير"، يجدد دماء مفرداته دائما وكأنه واحد منهم، إذا سأله أحدهم فيما لا يعرفه لا يجد حرجا فى أن يعترف بذلك فيزيد قدره عندهم ويصفقون له، قبل أن يعبر عن سعادته بالنقاش معهم لأنهم "يقبلون على القراءة".
جلال أمين المعروف بكتابه الرائد "ماذا حدث للمصريين؟" وفيه يقدم تفسيرا علميا لا يخلو من بساطة أيضا لكل التغيرات الاجتماعية التى حدثت فى حياة المصريين منذ عام 1945 وحتى عام 1995، ويرجع السبب فيها إلى العوامل الاقتصادية كالهجرة إلى الخليج، وارتفاع معدلات التضخم، واختلاف توزيع الدخل وغيرها، وعلى الرغم من أن الكتاب مازال يحتل حتى الآن قائمة الكتب الأكثر مبيعا وصدرت منه العديد من الطبعات، إلا أن "أمين" لا يخفى "غيظه" من الكتاب ويعلل ذلك بقوله "كل ما حد يقابلنى يقولى ع الكتاب ده أكنى مألفتش غيره؟".
جلال أمين المعتدل فى آرائه لا يخشى أن يدخل "عش الدبابير" اختياراً، فتراه فى مناقشة كتاب "الخطاب العربى الراهن" للمفكر الماركسى سمير أمين، ووسط حشد من مريدى "أمين" من الماركسيين، لا يخشى أن يعبر عن انزعاجه من التفسير الماركسى لجميع الظواهر، وضرب مثلا وقال: "كان فيه ولد فشل فى مدرسته لأنه مبيعرفش يكتب غير حرف الألف وكل حاجة فى الدنيا بيشوفها "ألف" يجى يبص ع النهر يقول ده زى الألف وهيا نايمه، يجى يبص ع الشجرة يقول دى ألف واقفة، وده اللى حصل فى كتاب سمير أمين، وبالطبع لم يسلم "أمين" من الهجوم الماركسى العتيد وقال "دخلت عش الدبابير".
وبعد أن كتب سيرته الذاتية "ماذا علمتنى الحياة؟" تحدث عنها وقال: "حاولت أن أكون صادقا لأن السيرة لا تصبح سيرة إلا إذا تعرى فيها الكاتب أمام قرائه، فلا أعدكم بكل الحقيقة فلدى ما أحافظ عليه، ولا أعدكم بنصفها لأن السيرة تتطلب أكثر من ذلك إنما أعدكم بحقيقة كاملة غابت عنها بعض التفاصيل"، وعندما سألته عن ارتباطه بالأدب قال لى "أنا والدى أحمد أمين كان كاتب وأديب عشان كده بحب الأدب وبينى وبينك الأدب أحلى من الاقتصاد".
جلال أمين الذى صال وجال وأنتج علما غزيرا ما زال يعدنا بالمزيد وبجزء ثان من سيرته الذاتية بعد أن اكتشف أنه نسى ما ينبغى تذكره، ويعدنا أيضا بكتاب جديد وبعلم متجدد كما عودنا دائما أن يكون وكأنه نهر يجدد مياهه قبل أن يتركها للركود.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة