أثارت فكرة بناء الجدار الفولاذى على الحدود المصرية الفلسطينية لغطاً كثيراً، فى حين اعتبرته الجهات الرسمية المصرية والفلسطينية والعديد من القادة السياسيين مصلحة للطرفين، إلا أن البعض رأى فيه تشديداً للحصار على الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة، لأنه ينهى ظاهرة الأنفاق والتهريب التى تمتد على طول الحدود المصرية الفلسطينية، حقيقة الأمر.. ماذا يعنى ذلك للمصلحة الوطنية المصرية والفلسطينية، ومن هو المتضرر الأساسى من وراء ذلك؟؟ أسئلة مشروعة وفى الإجابة عليها تتضح المواقف والدوافع.
لم تكن ظاهرة الأنفاق بالظاهرة الجديدة فقد عمد البعض لحفرها واستخدامها قبل الحصار على قطاع غزة إبان تواجد الاحتلال الإسرائيلى فى القطاع، كانت تستخدم لعدة أغراض أبرزها تهريب المخدرات والسلاح بدعوى مقاومة الاحتلال، والغريب أن ثمن السلاح حينها كان يرتفع بصورة جنونية الأمر الذى يؤكد أن الغرض الرئيسى من وراء ذلك تحقيق أقصى قيمة للربح، والمتاجرة بالوطن والمواطن الفلسطينى، هذا بالإضافة إلى أن إغراق قطاع غزة بالسلاح كان وراء نشوء ظاهرة المليشيات على حساب السلطة المركزية، الأمر الذى مهد وساعد فى الانقلاب على السلطة الوطنية الفلسطينية فى قطاع غزة.
وأثناء الحصار الإسرائيلى الأخير على قطاع غزة اتسعت ظاهرة الأنفاق ليتجاوز عددها ألف نفق تنتشر على طول الحدود، حيث يقوم أصحابها بتهريب العديد من البضائع والأسلحة الخاصة بحركة حماس فقط لكونها القوة المسيطرة على قطاع غزة، الغريب أن الحديث عن تهريب البضائع بدعوى توفير الاحتياجات الأساسية للمواطن فى غزة المحاصرة يتناقض مع حقيقة الأشياء، فدعم صمود المواطن المحاصر يعنى توفير البضائع له بأقل الأثمان، لكن ما يجرى عكس ذلك حيث تضاعفت أسعار الكثير من البضائع بمعدل الضعف أو الضعفين، الأمر الذى يؤكد مرة أخرى أن الهدف كان وما زال من وراء ذلك تحقيق أقصى الأرباح دون الالتفات لمعاناة الشعب الفلسطينى الحقيقية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد ساعدت عمليات التهريب فى إطالة أمد الحصار الإسرائيلى لقطاع غزة، حيث إن إسرائيل لم تواجه ضغطا دوليا لعدم تنامى الكارثة الإنسانية للمواطنين فى قطاع غزة بسبب ما توفره الأنفاق من احتياجات، هذا إلى جانب أن اعتماد قطاع غزة شيئا فشيئا على مصر يعنى تحقيق الهدف الإسرائيلى فى سلخ قطاع غزة عن باقى الوطن الفلسطينى الذى تحتله قوات الاحتلال الإسرائيلى، وبالتالى إجهاض المشروع الوطنى الفلسطينى القائم على أساس إقامة الدولة الفلسطينية فى الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس، وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم، وهذا يعنى أن الشعب الفلسطينى يدفع ثمنا سياسيا باهظا بسبب ظاهرة الأنفاق.
وإلى جانب ذلك أثرت ظاهرة الأنفاق بالسلب على معالجة الأوضاع الداخلية الفلسطينية، حيث استمر الانقسام الداخلى الذى يشكل أكبر ضربه للشعب الفلسطينى، فقد تعاملت حركة حماس التى تسيطر على قطاع غزة بالقوة مع ظاهرة الأنفاق كشريان مغذى لانقسامها وتدعيم إمكانياتها بالسيطرة على قطاع غزة، فهى مستفيدة على مستوى تنفيس حالة الاحتقان الشعبى ضدها، إلى جانب جنى الأموال الطائلة من وراء ذلك، والأخطر من كل ذلك أن هناك شريحة اجتماعية واسعة من بينها قادة وكوادر فى حركة حماس ارتبطت مصالحهم باستمرار هذه الأنفاق الأمر الذى أرخى بظلاله السلبية على دافعية حركة حماس للتوقيع على الورقة المصرية من أجل المصالحة الفلسطينية، لأن أمثال هذه الشرائح المنتفعة غير معنية بالمصالحة، فأى اتفاق وإنهاء للانقسام سينهى ظاهرة الأنفاق بسبب فتح المعابر، وهذا يعنى توقف عائدات التهريب لصالحهم.
إلى جانب ذلك فقد أرست ظاهرة الأنفاق ثقافة غريبة على المجتمع الفلسطينى قائمة على السماح للممنوع وترخيص غير المشروع، واستسهال سرقة المواطنين بطرق مختلفة، وكذلك أدت عمليات تهريب بعض العقارات الطبية التى تستخدم كمخدر مثل "الترامادول" إلى تعاطى شرائح واسعة من الشباب الفلسطينى لها، لاسيما فى أوساط طلبة المدارس، حيث ساعد على ذلك الوضع المأساوى وروح الإحباط واليأس بين الشباب.
أما فى مصر وعلى الحدود المصرية الفلسطينية فقد تفشت ظاهرة المرتزقة والمنتفعين على حساب الشعب ومصالح الوطن، فقد تجاوز أمر تهريب السلع الأساسية إلى ما هو أخطر ويتعارض مع القانون، بما يعنيه ذلك من نشوء مجموعات أصبح لها مصالح ستدافع عنها، وهذا ما أكدته العديد من الحوادث فى شمال سيناء وغيرها من المناطق الحدودية، إضافة إلى أن شراهة تحقيق أقصى الأرباح دفع البعض لسرقة المركبات المصرية لتهريبها إلى قطاع غزة، مما ساعد على نمو الجريمة المنظمة والممارسات المخالفة للقانون، كما أن سحب البضائع من الأسواق بطرق عشوائية سيخلق حالة من الإرباك فى السوق المصرى والتى تنعكس بدورها على مصالح المواطنين المصريين.
لقد حاول الشعب المصرى وحكومته مساعدة الشعب الفلسطينى فى كسر الحصار ـ بغض النظر عن عمليات التهريب، والمواطنين الفلسطينيين الذين وصلوا لبنى سويف ـ إلى جانب فتح مصر للمعبر الحدودى بينها وبين قطاع غزة.. خاصة أثناء العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة، لكن عندما تتجاوز الأوضاع الخطوط الحمراء للإضرار بالمصالح المصرية والفلسطينية العليا، لاسيما استمرار حالة الانقسام وعرقلة حركة حماس للجهود المصرية المبذولة من أجل ذلك، لأنها فى بحبوحة من أمرها ومستفيدة من استمرار ظاهرة التهريب، فإن الواقع يفرض على حكومتنا المصرية اتخاذ كافة التدابير لتأمين حدودها وصيانة أمنها القومى، ووقف هذه الظاهرة لتجنب مضارها، صحيح أن ذلك قد يؤثر سلبا على أوضاع المواطنين فى قطاع غزة، لكنه تأثير مؤقت ومحدود، وسيفيدهم على المدى البعيد، خاصة فى التعجيل بكسر الحصار وتحمل إسرائيل لمسئوليتها عن ذلك أمام العالم، كما سيدفع حركة حماس للتوقف عن عنجهيتها واستمرار وضع مصالحها فوق مصالح الشعب الفلسطينى، والتوجه نحو المصالحة الوطنية لإنهاء حالة الانقسام الكارثى، ووقف استخدام الورقة الفلسطينية من قبل بعض الأطراف الإقليمية لتحقيق مصالحها على حساب المصلحة الوطنية الفلسطينية وكذلك الأمن القومى المصرى.
يسرية سلامة تكتب.. الجدار الفولاذى لمصلحة مصر والفلسطينيين
الجمعة، 25 ديسمبر 2009 04:52 م
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة