سحر الموجى

عن اللوثة الدنماركية

الإثنين، 21 ديسمبر 2009 07:09 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كانت رحلة خاطفة إلى بلاد الدنمارك. مجرد أيام خمسة (14- 19 نوفمبر) لكنها كانت كافية لرصد قدر كبير من التفاصيل ذات الصلة بالمجتمع السياسى فى الدنمارك. ولم يكن التوقيت من باب المصادفة فقد اختار "معهد الحوار المصرى الدنماركي" (الله يسامحه) الأسبوع الذى تعقد فيه الانتخابات المحلية كى يصحب مجموعة الكتاب والصحفيين المصريين فى جولة لمتابعة الانتخابات والتعرف على بعض العوامل ذات الصلة بالمطبخ السياسى. وأخذتنا الجولة من عالم الفن الذى يفرزه أبناء المهاجرين العرب (كى يعبروا عن هوياتهم المزدوجة وموقعهم الملتبس فى المجتمع الدنماركى) إلى دهاليز الإعلام الدنماركى، وكيف يتعامل مع مرشحى الحكومة المحلية (وهم كثيرون) مرورا بأحد أماكن تجمع مهاجرين عرب ومسلمين ووصولا إلى اللجان الانتخابية يوم الانتخابات للقاء مندوبى المرشحين والناخبين.

فى أول أيامى هناك استرعى انتباهى ملصقات الدعاية الانتخابية وعليها صور المرشحين. وبينما كانت كاترين (مسئولة الإعلام فى "معهد الحوار المصرى الدنماركى") تشير إلى أحد هذه الملصقات لتلفت انتباه المجموعة إلى شواهد وجود انتخابات فى هذا التوقيت، وجدتنى أتسمر أمام الملصق الذى يحمل وجه شاب لا يمكن أن يتعدى عمره الثامنة والعشرين عاما. تعجبت ولم أخفِ استفهامى فجاءتنى الإجابة تؤكد أننى سألتقى الكثير من تلك الوجوه الشابة على مثل هذه الملصقات الانتخابية. وبصراحة لا أخفى عليكم أنه ما من مرة وقعت عينى على صور المرشحين إلا وتزايد قدر دهشتى. شباب وشابات فى العشرين والثلاثين والأربعين من العمر. شباب وشابات ليسوا فقط من أصول دنماركية صرف ولكن منهم من هو من أصل باكستانى وهندى وعربى، كما عرفت فى نهاية الأسبوع الدنماركى أن أحد الفلسطينيين/ الدنماركيين قد انتخب لمنصب عمدة إحدى المحليات.

وهنا لابد من إيضاح معلومة ذات صلة بأعمار المرشحين التى أصابتنى بعقدة نفسية يمكن لكل قارئ مصرى أن يفهم سببها. هذه المعلومة تخص صلاحيات الحكومة المحلية الهائلة، فتلك الحكومة (المكونة فى أغلبها من وجوه شابة كتلك المرفقة مع هذا المقال) لها حق إقرار الضرائب وتحصيلها وتقرير الأوجه التى ستخصص لها هذه الأموال. للحكومة المحلية الحق الكامل فى إصدار قرارات تخص حياة المواطنين بشكل مباشر كالتعليم والصحة ورعاية المسنين. فالنظام السياسى فى الدنمارك يتكون من ثلاث حكومات: الدولة: واختصاصها هو الشئون الخارجية فقط، والحكومة الإقليمية: وتختص برصف الطرق والمستشفيات، أما الحكومة المحلية فلها باقى الاختصاصات. طبعا هنا لابد من سلام مربع لـ"اللامركزية" التى تجرعناها كلاما فقط منذ كنا فى المدارس ولم نر لها أثرا لا فى أفعال السادة المسئولين ولا فى كلامهم الذى يؤكد دوما، بفخر يحسدون عليه، أنهم ينفذون توجيهات السيد الرئيس! ومن الضرورى فى هذه اللحظة أن ننسى مؤقتا أعمار الوزراء والمسئولين الكبار (مقاما) فى بلادنا المحروسة.

لا أعرف كيف أصف شعورى لدى الاطلاع على الوجوه المرشحة للانتخابات المحلية. فإلى جانب الحقد، وهو أمر مفهوم فى حالة امرأة مصرية يحتكر الحكم فى بلدها مجموعة من السياسيين لم نر غيرهم منذ وعينا على الحياة، اعتملت داخلى الدهشة أن هكذا ببساطة من الممكن لكل هؤلاء الشباب أن يتولوا مسئولية دفة الحكم المحلى، ومن المهم هنا أن أشير إلى بعض النقاط، أولها أن عضو المجالس المحلية لا يتقاضى أجرا كبيرا عن هذا العمل السياسى بل مجرد مكافأة صغيرة تكفى كما صرحت لى إحدى المرشحات الفائزات فى الانتخابات لدفع مرتب جليسة لطفلتها ذات السنوات الست. ومن ثم فلابد لأعضاء المحليات أن يحتفظوا بوظائفهم إلى جانب العمل السياسى (أعضاء البرلمان فقط هم الذين يتفرغون للسياسة). وفى استطلاع رأى لمرشحى المحليات عن السبب الذى يدفعهم لتولى هذه المسئولية إلى جانب وظائفهم قالوا "إنها القدرة على التأثير". وتلك هى النقطة الثانية التى أود إيضاحها هنا، إن تغيير المجالس المحلية كل أربع سنوات ينعكس بشكل سريع ومباشر على الحياة اليومية للدنماركيين، أى أنهم لو صوتوا لحزب أو اتجاه بعينه لديه خطة لتطوير التعليم فالأثر يظهر ملموسا واضحا فى شكل وميزانية ومقررات مدارس أولادهم. ولا داعى فى هذه النقطة إطلاقا أن نستحضر الهوة الشاسعة التى تفصل المواطن المصرى عن الحكومة التى لا نتذكر وجودها إلا فى الكوارث وهى فى حالة يرثى لها من الذعر والتخبط (والله يرحم الحرائق والعبارة الغارقة).

ومن هذا المنطلق، فإن معظم الدنماركيين الذين قابلتهم وسألتهم عن أى المرشحين سيختارون، قد أعربوا عن عدم رضاهم عن الحكومة اليمينية المعادية للأجانب، والتى تقلص من ميزانية التعليم، وبالتالى فالأحزاب ذات التوجهات اليسارية المناصرة لرفع ميزانية التعليم ودمج المهاجرين وتدعيمهم هى الأحزاب التى سيختارونها، وقد كان ما أرادوا، شهدت ذلك بعينى فى الأيام الخمسة هناك حين أعلنت نتائج الانتخابات وعرفت باكتساح الأحزاب اليسارية لمجالس الحكم المحلى.

هناك العديد من المرشحين من مختلف الأحزاب السياسية (وهى كثيرة وفاعلة)، وهناك أيضا المستقلون الذى لا يلزم لقبول ترشيحهم للانتخابات إلا موافقة خمسة عشر مواطنا دنماركيا. أى أن بإمكان المرشح المستقل جمع هذه التوقيعات الـ15 من أهله أو أصحابه على القهوة! أما عن الناخبين الذى تتعدى نسبة مشاركتهم فى الانتخابات المحلية السبعين بالمائة فهم ليسوا بالضرورة مواطنين يحملون الجنسية الدنماركية، ولكن أى أجنبى يعيش فى هذا البلد ثلاث سنوات من حقه التصويت. ضعوا من فضلكم هذه المعلومة جنبا إلى جنب مع رفض أحد أقسام الشرطة منح صديقة لى بطاقة انتخابية لأنها مولودة خارج مصر! هل صحيح أن المصرى المولود خارج مصر (ولا يحمل أى جنسية أخرى) ليس من حقه استخراج بطاقة انتخابية! هل يعنى هذا أن الحكومة لا تعتبر من ولد خارج البلد رغم أن أبويه مصريين (ويفخرون بذلك) ليس مصريا، أو مصريا مضروبا فى يافوخه ببعض هواء ملوث بالديمقراطية؟

لابد أن أعلن هنا أنه قبل سفرى للدانمارك بشهور كنت قد أصبت بلوثة عقلية نتج عنها تحريضى دوائر الأهل والأصحاب لاستخراج بطاقات انتخابية. وقد قوبلت تلك اللوثة بشتى ألوان رد الفعل: فهناك من نظر إلى بشفقة وقرر ألا يرد وهناك من رد قائلا إن التزوير قادم لا محالة، كما لا أنكر حالات لبعض المخابيل الذين أبدوا استعدادا للقيام بهذا الفعل المتهور، وكان أولهم هى تلك الصديقة التى قالوا لها فى القسم (ولا مؤاخذة) إنها مولودة فى أسبانيا، وبالتالى فليس من حقها بطاقة انتخابية! (وعند سؤال قسم شرطة آخر قال مسئول البطاقات الانتخابية إنه لا قرار يحتم الحول بينها وبين امتلاك بطاقة انتخابية!!). أعود لأقر أن اللوثة الديمقراطية التى أصابتنى تسبق زيارة الدنمارك ببضعة شهور، وذلك حتى لا يتهم أحدكم الدنمارك بإفساد هويتى كمصرية أصيلة تتنفس الديكتاتورية منذ وعت للحياة. ولكن الرحلة ووجوه المرشحين الدنماركيين نغصت على العيشة أكثر مما هى أصلا، وقلبت على مواجع مقيمة وأثارت فى عقلى طموحات شريرة. نفسى قبل ما أموت أعيش الشعور أننى لو لم أرضَ عن أداء أحد المسئولين أقول بالصوت الحيانى "لن أنتخبه فى المرة القادمة"، نفسى ومش كتير على ربنا.


















مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة