قد لا نجانب الحقيقة كثيرا إذا عزونا أسباب كل هذا الارتباك والفوضى الضاربة بأطناب ساحة الإفتاء الشرعى، إلى التمطط الكبير لمصطلح "الشيخ" فى أذهان البسطاء من العامة الذين يطمحون أن يلاقوا ربهم بقلب سليم.. فبشروط عيانية ميسرة لا تتعدى اللحية المرجلة بعناية وارتداء الجبة أو القفطان وحمل المسبحة وإضفاء بعض الورع على سيماء الوجه.. يمنح المرء على إثرها فورا لقب المشيخة الغالى بدون أدنى تدقيق فى ماضيه العلمى الفقهى، ودون أدنى سؤال عن خلفيته البحثية أو عن مصادر فتاواه.
وهذا ما يجعل من الصعوبة بمكان استيعاب إمكانية التوفيق ما بين كل هذا التساهل الكبير والتبسط الكامل مع مسألة الإفتاء- رغم خطورتها- وما بين التباكى الدائم والادعاء والتشكى بعالى الصوت من الهجمات وسوء الفهم والضغائنية المبيتة التى يتعرض لها الإسلام من كل حدب وصوب.
فمن المحير فعلا أن نبرر تطوع الإمام اليمنى المدعو أنور العولقي، بإصدار فتوى تعتبر ما قام به الرائد نضال حسن الفلسطينى الأصل والأمريكى المولد من إطلاق النار على زملائه فى قاعدة فورت هود بولاية تكساس والذى أدى إلى وفاة ثلاثة عشر وجرح ثمانية جهادا فى سبيل الله. والأكثر غرابة هو اعتبار ما قام به حسن من الأفعال التى يجيزها الإسلام.
فبذخيرة من مثل هذه الفتاوى يكون من الخطل الأقرب إلى إضاعة الوقت والجهد مجادلة المواطن الغربى بكون الإسلام دين تسامح وإخاء.. أو المطالبة بحق المسلم فى ممارسة شعائره وبناء مآذنه فى دول ومجتمعات لا تدين بالدين الإسلامى.. خصوصا مع الحرس المتواطئ للقيادات الروحية تجاه مثل هذا العبث الفقهى.
إن إشاعة ثقافة تغليب النقل على العقل بلا تمحيص أو استدراك أو مراعاة للظروف الزمكانية للبيئة التاريخية التى أفرزت المنقول.. واقتصار تدخل المؤسسات الرسمية على ما يمكن أن يمس بالحكم من قريب أو بعيد وترك ما دونه.. وفسح المجال لكل من يعانى من هوس مرضى من حب الظهور..لا يمكن أن يؤدى إلا إلى إخراج المجتمع الإسلامى من سياقات الحياة المعاشة المعاصرة.. ولا يمكن أن ينتج إلا ارتكاسات متوالية مستمرة إلى ما بين دفات الكتب العتيقة المصفرة.
فمن المؤلم أن نجد العلماء يفتون فى عهد الخديوى إسماعيل بـ"جواز الاختلاط بين الرجل والمرأة بهدف تلقى العلم، ما لم يتم الخروج على محارم الله" بينما نجد فقهاء ثورة الاتصالات وعصر المعلومات يفتون بجواز شرب بول النبى عليه الصلاة والسلام للتبرك.. ومشغولون فى تثبيت تقنيات أوضاع الكبير.. وحصر منتهى العلم بقضايا الطهارة والحيض والنفاس والعلاقات الزوجية..وهل من المعقول أن يفتى بدم البعوض ولعاب الكلب.. ولا يهتدى أحد ورثة الأنبياء لحد الآن إلى الإفتاء فى شرعية الاستئثار بفىء الدولة ومواردها من قبل السلطان و"الأقربين فالأقربين بالمنكر كان أوبالمعروف.. وهل يجوز أن تأخذ البعض الغيرة والحمية على الإسلام والمسلمين إلى حد تحريم التجنس بالجنسية الأمريكية، ولا يناقش التخريج الفقهى لتوريث السلطة إلى الأبناء..
وأليس فى اليمن ما يكفى من المشاكل التى تدفع فضيلة الشيخ إلى الاهتمام بها تاركا مهمة تصدير الفتاوى إلى الغرب لمن هو أكثر فهما وعقلا ودراية منه؟..
يقول الأستاذ عبد الحميد صيام، صادقاً: "والغريب أن هذا الإمام يشاهد ما يجرى فى اليمن ولا يثير ذلك لديه أى نوع من الاهتمام ليصدر فتاويه. فلماذا لا يفتى بتحريم سفك دماء المسلمين فى صعدة؟ ولماذا لايفتى بتحريم الاحتكام إلى السلاح عند اختلاف أبناء الوطن الواحد والدين الواحد؟ ولماذا لا يفتى، لا فض فوه، بعدم شرعية نظام الحكم الذى يجلس على صدور اليمنيين منذ عام 1978؟ "
إنَّ فوضى الإفتاء التى نشهدها تقترب من مستوى الأزمة.. وهى أزمة جادة وحقيقية تستدعى وقفة شجاعة تتعاطى مع ما ينفع الناس ويحقق مصالحهم وتتصدى لكل الزبد من فتاوى التخدير الغرائزى والترويج بالغريب من المسائل الأقرب إلى الحيل الشرعية.. وإلا فالإسلام سيخسر الكثير الكثير من مواقعه ويتضاءل تأثيره باضطراد ويزداد تقوقعه فى خندق المدافع المحاصر اليائس.. وعندها لن يجد فضيلة الشيخ من يسمعه.. ولن يجد من يهلل له.. ولن يجد من يدفع إليه أجره..
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة