نقلا عن مجلة الثقافة الجديدة
إذا كنا جميعا نعلم هذه الحقيقة، فلماذا اختار الروائى الكبير إبراهيم عبد المجيد أن يسمى روايته الأخيرة الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية "فى كل أسبوع يوم جمعة" ، بجملة تقريرية بسيطة بهذا الشكل؟
فى هذه الرواية يدخل عبد المجيد عالما جديدا على الأدب العربى، وحديثا حتى فى الأدب العالمى، فالرواية كلها عبارة عن موقع أو منتدى على الإنترنت، افتتحته مؤسسته روضة رياض فى لحظة ملل، وهى لا تعلم لماذا فعلت هذا، قررت أن يقتصر أعضاء الموقع على خمسين شخصا، وقالت: "وبعد أن تتعمق معرفتنا ببعض، نرى ماذا يمكن أن نفعل نحن الخمسون"، لكنها قالت فى نفس الرسالة التى افتتحت بها الموقع إن أهم إنجاز يمكن أن يفعله الموقع هو "البوح"، الذى له تأثيره الساحر فى إنقاذ أصحابه من الأرق والتوتر والعقد، لنكتشف عبر فصول الرواية أن "الأرق والتوتر والعقد" هى تحديدا مشاكل روضة رياض التى تدمنها ولا تريد التخلص منها، وبالتالى سينضم عدد كبير من الأشخاص إلى الموقع، وسنراهم جميعا فى حالة بوح، إما بوح علنى على صفحاتهم على الموقع، أو بوح خاص فى رسالة إلى شخص واحد فقط، إلا روضة رياض مؤسسة الموقع فهى الوحيدة التى لن تبوح بمشكلاتها وبالتالى لن تتخلص منها، لكنها ستكتشف هى مع الوقت أن للموقع فوائد أخرى، لكنها فوائد تزيد من أرقها وتوترها وعقدها، ورغم هذا فإنها تستمع بها.
هذه رواية صعبة، فى كتابتها وبنائها ورصد تفاصيل شخصياتها وعلاقاتهم ببعضهم البعض، وكان يمكن بمنتهى السهولة أن تفلت الخيوط، أو تتوه الشخصيات، لكن الكاتب ظل طوال الوقت محافظا على سير الأحداث وتطور الشخصيات، فوراء كل شخصية حكاية، ووراء كل شخصية سبب مختلف تماما للانضمام إلى الموقع، على سبيل المثال: زاهر على مدرس اللغة العربية الذى يهوى الصيد فى أعالى البحار، ويحب النساء، والذى سيكتشف فى النهاية أنه رغم كونه صيادا ماهرا فسيقع فريسة سهلة لروضة رياض وزوجها عماد "المنغولى"، ولكنه سيكون الاكتشاف الأخير فى حياته.
وسامية جمال طالبة الاقتصاد والعلوم السياسية، وهى زوجة مسيحية يعانى زوجها من العجز الجنسى ورغم ثرائها وثراء والدها لا يمكنها طلب الطلاق، وتظل مشكلتها قائمة دون حل حتى قبل نهاية الرواية بقليل، ثم مختار كحيل الباحث عن المعرفة دائما، والمتحير فى الكون وأسئلته الوجودية التى لا حل لها، والذى كتب فى مهنته "أرمل" لوفاة ثلاثة من زوجاته إحداهن ماتت أسفله وهو يضاجعها فى ليلة الدخلة، ثم ماهر كونيكشن مهندس الاتصالات الذى تتلخص مشكلته فى عدائه للشرطة، بسبب القبض عليه "اشتباه" فى كمين قرب ميدان الجيزة، ولأنه لم يشأ أن يفرط فى حقوقه تم إهدار كرامته، وضربه وإصابته إصابات بالغة، ويدخل بنا الكاتب من خلاله عالم الشرطة السرى، والتعذيب والرشاوى والوساطة وتلفيق التهم.
ثم يبتكر إبراهيم عبد المجيد شخصية جميلة وهى خميس جمعة سائق ميكروباص تعلم الدخول على الإنترنت حتى يكلم ابنه وابنته اللذين سافرا وتركاه، وكل مشكلته فى الحياة أنه يريد أن يعبر حالة "الديليت" إلى حالة "الفوروارد"، وقد اشترك فى الجروب حتى يرسل برسائل "فوروارد" من إيميله إلى الأعضاء، وطلب منهم أن يساعدوه فى هذا.
هذه بعض شخصيات الرواية التى تستمد ثراءها وتميزها من تعدد وتنوع شخوصها، ومن اللعبة التى أقامها الكاتب بينهم، فإبراهيم عبد المجيد يثبت هنا أنه مازال محتفظا بقدرته الكاملة على اللعب داخل النص الروائي، وعلى التجريب، وابتكار أشكال جديدة، حتى أنه أفاد تماما فى هذه الرواية مما يطلق عليه "الكتابة الجديدة"، واستطاع أن يدخل عالما ربما يراه البعض حكرا على الكتاب الشباب، لأنه تكنولوجيا خاصة بهم، لكنه دخل إليه بأدواته، واستطاع تقديم رواية تثير كثيرا من الأسئلة حول هذا العالم الافتراضى، ومدى قربه وبعده عن العالم الواقعى، ومدى تداخله معه أو انفصاله عنه، كما أنه أفاد كثيرا من هذا الشكل فى الخوض فى أدق تفاصيل المجتمع السياسية والاجتماعية والدينية والجنسية، بطريقة لا يمكن اتهامها بالمباشرة.
يوم الجمعة فى التراث الإسلامى هو سيد أيام الأسبوع، فهو يوم بدء الخليقة، ويوم انتهائها، وكما فى الحديث الشريف: فيه خلق آدم وفيه دخل الجنة وفيه أخرج منها وفيه تقوم الساعة. ولأن الرواية ملخص للعالم، ولأن إبراهيم عبد المجيد قرر خلق عالمه الخاص، مازجا فيه بين الافتراضى والواقعى، فضّل أن يسير على نفس خطوات خلق العالم القديم، وإذا كانت حواء فى الأساطير القديمة تسببت فى طرد آدم من الجنة فى يوم الجمعة، فإن المرأة فى الرواية تقع فى هذه الإشكالية، فروضة رياض تختار من يدخل الموقع يوم الجمعة، وهى جنتها المصغرة، ثم تختار بعناية من يدخل جنتها الكبرى، فتدعوه إلى فراشها يوم الجمعة أيضا، لكنه يكون دخولا لمرة واحدة فقط، فيدخل يوم الجمعة، ثم يخرج يوم الجمعة ليس من جنتها فقط بل من الحياة نهائيا.
حتى مريم الصحفية قررت أن تكتفى بعلاقة مثلية طاردة الرجال من حياتها تماما، وهو نفس ما فعلته نهى المضيفة الجوية التى أغوتها بدخول جنة للنساء فقط، كذلك رنا الحزينة تسببت فى خروج سليمان "المنغولى" أيضا من جنة بيت أمه وأخيه إلى العراء، وكأن المرأة فى سبيل بحثها عن ذاتها لا بد أن تطرد – بقصد أو بدون قصد – الرجل من الجنة.
لكن هذا لا يعنى إدانة إبراهيم عبد المجيد للمرأة، لأنها على الجانب الآخر ضحية للرجل، يتضح هذا مع روضة رياض التى تعيش حياتها كلها لتدفع ثمن أخطاء رجال، فتدفع ثمن فقر والدها، وجهل وإجرام حبيبها، ثم جشع وطمع حماها، حتى مرض وسادية زوجها المونغولي، كذلك تعيش الدكتورة أمينة ضحية لخطيبها الذى هرب منها وهى بفستان الزفاف، ويتضح أيضا فى جرح مريم الصحفية العاطفى، وحتى فى معاناة سامية جمال مع عجز زوجها الجنسى، فلا توجد هنا إدانة لجنس معين، بل تمتد الإدانة لتشمل الوضع الخاطئ سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، الذى أدى بكل هذه الشخصيات من كل طبقات وشرائح وفئات المجتمع بدءا من أستاذ الجامعة حتى ربة المنزل وسائق الميكروباص إلى الهروب من العالم الواقعى إلى عالم افتراضى كاذب، يضمن لهم خلق حياة جديدة وشخصيات جديدة، ربما ليست هى ما يريدون تماما، لكنها على الأقل حياة جديدة.
إذن "فى كل أسبوع يوم جمعة" مما يعنى قابلية الحكاية برمتها للتكرار، فالنهاية المفتوحة للرواية كانت أذكى من أن تقع فى فخ النهاية التلفزيونية بالقبض على روضة رياض، رغم الثغرات الكثيرة التى تتركها خلفها، لكن الكاتب هنا ترك الثغرات وفى نفس الوقت تركها وهى على وشك تنفيذ جريمة جديدة. نحن أمام حكاية ممتدة لن تنتهى بانتهاء صفحات الرواية، لأن ما يحكى هنا لا يتعدى كونه عينة ضئيلة وضعها الكاتب تحت مجهره الإبداعى وكأنه يجرى تحليلا معمليا لهذا الوطن أو هذا المجتمع، وللأسف فالنتيجة كانت إصابته بكل هذا القدر من الأمراض، التى تعنى أنه إذا لم يخضع لعلاج سريع ومكثف، فقد نستيقظ ذات جمعة لنجده قد فارق الحياة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة