د. محمد سيف

حب الشهوات

السبت، 19 ديسمبر 2009 06:54 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
إذا أطلقت كلمة الشهوات فإنه سرعان ما ينصرف معها الذهن تبعا لما عليه ثقافة المجتمع إلى كل ما هو مرذول أو مستقبح، خاصة فيما يتعلق بشهوة النساء، ولكنه فى حقيقة الأمر لا يمكن اختزال المعنى فى ذلك فقط، فمعنى الشهوة يختلف فى اللغة بحسب اختلاف إطلاقها، فمنها شهوة الفرج ومنها شهوة الطعام ومنها شهوة السفر إلى مكان معين، وغيرها وذلك كله من معنى الرغبة، فالشهوات كلمة جامعة لكل ما يحبه الإنسان ويرغبه ويشتهيه وهى مجبولة فى نفسه من أجل الحفاظ على نوع الإنسان من الفناء أو الانتهاء.

ولذلك نجد أن أعظم شهوتين للإنسان هما شهوتا الطعام والنساء، فبالطعام يحيا الإنسان ويستمر فى تواجده على الأرض، وبالنساء يكون التناسل الذى يحفظ النوع البشرى من الانقراض، وهناك شهوات أخرى، لكنها بالتبعية تصب فى هاتين الشهوتين الرئيستين وتنطلق منهما مثل شهوة المال وشهوة المنصب والرئاسة وشهوة الجاه والحسب وشهوة التزيُّن والعُجْب وشهوة الرياء، فبالمال والسلطان يستطيع أن يبلغ الإنسان درجات متفاوتة فى إشباع هذه الشهوات.

فالشهوة قوة دافعة داخل الإنسان، تعتمد على طريقة التعامل معها، إما أن تكون الشهوة سلماً نرقى به إلى أعلى عليين، أو دركات نهوى بها إلى أسفل سافلين، ومن ثم يمكننا تشبيه الشهوات بمثابة المحرك فى المراكب السيارة، والعقل بمثابة عجلة القيادة، والشرع بمثابة الطريق، فمهمة الشهوات الحركة، ومهمة العقل إبقاء المركبة على الطريق، والشرع هو الطريق، ومن هنا يبرز المعنى الإيجابى للشهوات، ودائماً وأبداً حينما نتحدث عن الأوامر والنواهى، نجد إنها متعلقة بالشهوات، متعلقة بشهوة النساء، وشهوة المال، فتكاد معظم الأحكام الفقهية تنصب على هذين الحقلين الكبيرين، إذاً يمكننا القول إن الشهوات حيادية، وسلم نرقى بها أو دركات نهوى بها، وهى تتوقف على كيفية استخدامها.

لذلك عندما نستمع إلى قول الحق سبحانه وتعالى: }زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المَآبِ{، نجد أن الآية توضح لنا أن ميل الشهوة إلى شىء ما، إذا كان مما يؤكد حقيقة استبقاء الحياة فهو مطلوب ومقبول، ولكن إن أخذ الإنسان الأمر على أكثر من ذلك فهذا هو الممقوت، وهنا يبتدرنا سؤال، من المزين؟ إن كان فى الأمر الزائد على الضروريات فهذا من شغل الشيطان، وإن كان فى الأمر الرتيب الذى يضمن استبقاء النوع فهذا من الله، فكلمة "زُيِّنَ" تعطينا فاصلاً بين المتعة التى يحلها الله، والمتعة التى لا يرضاها الله، لأن الزينة عادة هى شىء فوق الجوهر، فالمرأة تكون جميلة فى ذاتها وبعد ذلك تتزين، فتكون زينتها شيئاً فوق جوهر جمالها، فكأن الله يريد أن نأخذ الحياة ولا نرفضها، ولكن لا نأخذها بزينتها وبهرجتها، بل نأخذها بحقيقتها الاستباقية.

فمثال.. ولله المثل الأعلى: إن أعنف غرائز الإنسان هى الغريزة الجنسية، وأن الحيوان يَفْضُل الإنسان فيها، فالحيوان أخذ العملية الجنسية لاستبقاء النوع.. بدليل أن الأنثى من الحيوان إذا تم لقاحها من فحل لا تُمكن فحلاً آخر منها، والفحل أيضاً إذا ما جاء إلى أنثى وهى حامل فهو لا يُقبل عليها، إذن فالحيوانات قد أخذت غريزة الجنس كاستبقاء للحياة، ولم تأخذها كالإنسان لذة متجددة، ومع ذلك نحن البشر نظلم الحيوانات، ونقول فى وصف شهوة الإنسان، إن عند فلان شهوة بهيمية.. فنقول: يا ليتها كانت بهيمية بالفعل، لأن البهيمية قد أخذتها على القدر الضرورى... لكن نحن فلسفناها، إذن فخروجك بالشىء عما يمكن أن يكون مباحاً ومشروعاً يسمى: دناءة شهوة النفس.

ومن ثم أراد الشارع الحكيم أن يدرب المسلم على ضبط شهوات نفسه ففرض عليه الامتناع عن الطعام والنساء من خلال الصيام لفترة محدودة من اليوم والليلة لمدة شهر هو شهر رمضان، بل وحببه إلى فعل ذلك ثلاثة أيام على الأقل من كل شهر وهى الليالى القمرية، لماذا؟ لأن فى هذا الامتناع حكمة تنادينا قائلة: إنكم امتنعتم عن الحلال المباح، فيجب أن تستحوا من الله عز وجل ـ وتمتنعوا عن الحرام من باب أولى، إذ لا يعقل أن نمتنع عن الحلال ثم نقترف الحرام، وبهذا الابتعاد عن أهواء النفس وشهواتها، ووسوسة الشيطان يمثل الصيام رافداً هاماً من أهم روافد الطاقة الروحية، لما فيه من وقفٍ لعوائد النفس وانطلاقها فى ملذاتها، وفيه تحقيق لمعنى مجاهدة النفس والانتصار عليها، ولهذا سئل عمر بن الخطاب: أيهما أفضل؟ رجل لم تخطر له الشهوات ولم تمر بباله، أو رجل نازعته إليها نفسه فتركها لله؟ فكتب عمر: إن الذى تشتهى نفسه المعاصى ويتركها لله عز وجل من الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم.







مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة