كل من يشاهد بلدوزرات محافظة القاهرة وهى تتحرك تحت حماية الأمن لتنفيذ قرارات إزالة عدد من العمارات فى عزبة الهجانة، يتصور أن القانون فى مصر حاسم وقوى ويطبق على الجميع. وقد يعتبر من يدافع عن المخالفات إنسانا ضد القانون وعدواً للشرعية. لكن النظام فى مصر والمحليات والإسكان وغيرها، يرى الباطل حقا ويمنحه مشروعية، ويصبح قانونياً جدا وفى حراسة الأمن.
فى عزبة الهجانة قامت العمارات محل الخلاف من سنوات، وارتفعت طابقا فوق آخر أمام بصر وسمع الحكومة، وحصلت على كامل المشروعية بدخول المرافق من ماء وكهرباء وتليفونات، ولم تكن المحافظة نائمة أو شاربة حاجة صفراء، وهذه العمارات لم تلبس طاقية الإخفاء، وبناء على توصيل المرافق اشترى الناس واستأجروا وسكنوا وعاشوا سنوات وخلفوا صبيان وبنات.
وبعد سنوات أفاقت محافظة القاهرة من غفوتها، لتكتشف أن العمارات مخالفة، وتفتقد إلى الاشتراطات الهندسية. ولا ندرى أين كان المحافظ والمحافظة والإدارات الهندسية، والتقارير المعملية الفذة. ولماذا انتظروا كل هذه السنين ليتحركوا.. بعد أن سكن الساكنون وعاش العائشون. من الصعب أن تجد إجابة على مثل هذه الأسئلة التى تدخل فى نطاق المستحيلات من غول وعنقاء وإدارات هندسية.
ولو كانت المحافظة راعت عملها من البداية ربما كان يمكن تقبل الأمر، ولهذا فإن نائب الدائرة مصطفى السلاب تصدى للمحافظة وبدا وكأنه يدافع عن الباطل، وحتى لو كان يفعل هذا لأسباب انتخابية، فقد وصل الأمر إلى مجلس الشعب وتم تأجيل قرارات الإزالة حتى إشعار آخر، لكن كانت المصادمات وقعت بسبب اعتراض السكان وأصحاب العقارات المخالفة، وسقط قتلى وجرحى من المواطنين وقوات الأمن، وبدا أن الباطل والحق متداخلان وممتزجان وملتصقان كالتوأم.
هذه القصة تذكرنا بحدث دار قبل شهور عندما استيقظت محافظة حلوان لتطالب بهدم عقارات خلف المحكمة الدستورية على كورنيش المعادى، لأنها بنيت على أراضٍ زراعية. واعترض أصحاب الشقق، وقالوا إنها بنيت وارتفعت دورا فوق دور طوال عشر سنوات على الأقل، وانتقلت المنطقة من القاهرة إلى حلوان ضمن قرار عجيب بإعادة تقسيم المحافظات، وانتبه المسئولون لوجود عمارات مخالفة فجأة.
لماذا يدافع الناس عن الباطل وغير القانونى والمخالف؟ لأنهم يرون الباطل طوال الوقت قائما ومحتفيا به. هناك عشرات الآلاف من العمارات فى أحياء كثيرة بالقاهرة والجيزة وحلوان قامت فى أحياء كاملة مخالفة لكل الاشتراطات القانونية والهندسية والتنظيمية، قامت بطرق غير قانونية ولا تزال قائمة ولم يمسسها مسئول ولا اقترب منها قرار إزالة، قامت بالرشوة والتواطؤ والفساد أو دفع غرامة أو إتاوة، ولا تزال تطلع لسانها للقانون. وأغلب العمارات والأبراج خالفت القانون وحولت الجراجات إلى محلات أو مخازن وساهمت بكل نشاط فى أزمة المرور والركنات دون أن يحاسبها أحد.
فى مدينة نصر تم تحويل الأدوار الأرضية من العمارات والأبراج إلى محلات ومطاعم بالمخالفة للقانون وتحت سمع وحراسة الأجهزة والإدارات والمحليات. فى القاهرة آلاف من المقاهى تم افتتاحها فى العمارات ووسط الكتل السكنية، ولا تزال قائمة ومخالفة وتسهر حتى الصباح.
فإذا كان ذلك كذلك فمن الطبيعى أن يرفض سكان عمارات الهجانة قرارات قانونية، لعلمهم أن هناك ملايين المخالفين مثلهم، وعشرات الملايين من المخالفات، ولأن الباطل يحصل على الشرعية من الأجهزة المختصة، فإذا أعلن أحدهم أن هذا باطل قالوا له "اشمعنى"؟.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة