تحولت أمور عديدة فى حياتنا إلى مجرد إحصائيات، نسردها دون أن نتخذ حيالها أى موقف، وننظر إليها ونتعجب فى أقصى تقدير، فعلى المستوى الإقليمى سقوط العديد من الضحايا والصرعى فى الحروب سواء أكانت حرب أفغانستان أو حرب العراق، أو ضحايا المجازر الإسرائيلية، بخلاف الصراعات الداخلية والتوترات التى تشهدها الساحة العربية والإقليمية سواء أكانت فى باكستان أو السودان أو الصومال أو لبنان، وبمرور الوقت نتعايش مع الأحداث ونتكيف مع وجودها وتتحول الضحايا والصرعى من حولنا إلى مجرد أرقام وإحصائيات، وحيث إن العموميات والمعلومات المجردة لا يستطيع أن يعمل عليها العقل البشرى بكفاءة بعد، ولا يستجيب معها بشكل كبير، لذلك نتعامل معها كأرقام، وأعداد، وقد تصل إلى تخمينات وتكهنات لدى البعض عن الفترة اللاحقة، وكم سوف يكون العدد المرتقب!
وافتتحها وزير الصحة بتوقعه تخطى حالات الوفاة الناجمة عن فيروس (H1N1) المسبب لمرض أنفلونزا الخنازير حاجز الـ 100 حالة مع نهاية شهر ديسمبر الجارى، وكأنه يقول لنا علينا أن نتقبل توقعه، ونتعامل معها على أنها إحصائية، ونبارك له قدرته على التوقع والتكهن، دون أن يبرز لنا جهوده الفعلية وآليات الوزارة المتخذة لمواجهة هذا الوباء والقادرة على تقليص خطواته.
إن كانت أنفلونزا الخنازير بدأت فى بعض دول الغرب بقفزات فى بداية الأمر، لكن سرعان ما تم محاصرتها وتحولت من قفزات إلى خطوات والخطوات فى طريق السيطرة عليها وتحجيمها، ولكن نحن فى مصر من الملاحظ أنها بدأت بخطوات، ولكن مهيئة أن تتحول إلى قفزات سريعة مادام مجلس الوزراء ووزارة الصحة والبيئة والتعليم والمواصلات والنقل وغيرهم من الوزارات ذات الصلة لم تتخذ وسائل الحماية الحقيقية بقدر التزام أساليب التهدئة والاطمئنان على الأوضاع، وأننا أفضل حالاً من غيرنا.
إن عدم تحجيم وتقييد هذا الفيروس والسيطرة عليه بطوارئ صحية فعالة قادر أن يتحول بمرور الوقت إلى إحصائية فقط وتتعود آذاننا وتتشبع عقولنا بأعداد الضحايا والموتى الناجمة عن المرض.
ولا يقبل أن تتخذ وزارة الصحة لنفسها ذريعة بالقول إننا أفضل حالاً من غيرنا، وتكتفى بهذا أو حتى مجلس الوزراء، ويستخدمان أسلوب "أننا نبهنا وحذرنا سابقا"، وكأنهما غسلا أيديهما بتهيئة الأوضاع لقبول إحصائية جديدة قد تكون من الوزن الثقيل، وحتى لا نجد أنفسنا واقعين فى فخ عشوائيات الفكر والكلام الكثير دون اتخاذ آليات وبدائل حقيقية قادرة على السيطرة والهيمنة على انتشار المرض وتوغله فى حياتنا.
وعلى الإعلام ومجلس الشعب دور كبير فى التوعية والمسألة، فعلى الإعلام ألا يسهم فى تحويل الأمر إلى مجرد إحصائية بقدر أن عليه دورا فى تجسيد وإظهار الحالة الإنسانية لكل متوفٍ من هذا المرض أو غيره فى حالات الكوارث وسوء الإدارة، والإعلام قد يرتكب خطيئة بالمساهمة فى تقبل الناس للوضع، دون أن يبرز ظروف كل حالة وشخصية المتوفى وظروفه وحياته، وبالتركيز على الجانب الحسى بما يسهم فى تفاعل الناس مع الحالة، وهو ما يدفع الناس إلى التحرك للضغط على الحكومة، ومحاسبتها الذى قد يصل إلى سحب الثقة فى الحكومة، عن طريق ممثلى الشعب فى مجلس الشعب، وحتى إن كان سحب الثقة أمر لم نألفه فى هذا العهد، فإن الضغط قادر على إحراج الحكومة، فى مناسبات عدة، وقادر أيضًا على إحراج بعض ممثلى الشعب المتقاعسين عن القيام بأداء واجبهم الحقيقى باستخدام العديد من الذرائع والحجج، فلا يقبل من أحد من أعضاء مجلس الشعب أن يكون دوره مجرد كومبارس لتجميل الصورة.
وكما أُثر عن جوزيف ستالين خبير الحرب وصاحب القبضة الحديدية "موت شخص واحد يعد فاجعة، أما موت مليون شخص فهو مسألة إحصائية"، ويروى "نسيم طالب" فى مؤلفه البجعة السوداء الحاصد أعلى المبيعات وفقًا لقائمة نيويورك تايمز، إنه إبان الحرب الأهلية اللبنانية، وفى أواخر السبعينات من القرن المنصرم سقط طفل فى إحدى الآبار فى إيطاليا، ولم يستطع رجال الإنقاذ سحبه إلى خارج فوهة البئر، فظل الطفل يبكى فى داخل البئر دون رجاء، وتعلقت أنظار وأسماع إيطاليا والعالم بمصير الطفل تتابع التغطية الإعلامية والصحفية لمصير الطفل، وكانت صرخات الطفل تحز فى ضمائر المتابعين والمنقذين والإعلاميين، وبالرغم من الحرب الأهلية المضرمة فى لبنان فى هذا الوقت، وفيما كان اللبنانيون فى أوج أزمتهم، فإنهم كانوا أيضًا مشدودين إلى مصير ذلك الطفل، الطفل الإيطالى ذاته، بالرغم إن الناس كانوا يموتون بسبب الحرب، وكان المدنيون يعانون من تهديدات السيارات المفخخة، ولكن مصير الطفل الإيطالى جاء فى مرتبة عالية من اهتمامات وهموم اللبنانيين وقد عبرت بيروت وقتها عن ذهاب بعض همها بعد أن تم إنقاذ الطفل فى نهاية الأمر.
وهكذا لعب الإعلام الإيطالى والوكالات الإعلامية والصحافة دورًا كبيرًا فى بروز مأساة الطفل بشكل يفوق مأساة شعب كامل يتعرض للفتك وللنار، إنه نوع من أنواع التركيز وتسليط الأضواء على الحالة الإنسانية، وقدرة العقل أن يعمل على الشكل الواضح والمحدد والتفاعل معه، ولا يعمل بكفاءة بعد مع الإحصائيات والبيانات العامة ومع الأعداد، فإذا أردنا ألا تتحول أنفلونزا الخنازير أو غيرها من الحالات التى نسردها بشكل فيه من العمومية إلى إحصائية، علينا أن نسرد الحكاية بوضوح وأن نركز الضوء على الحالة وجانبها الحسى، وعلى من يعيشون من حولها.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة