فؤاد قنديل يكتب: المثقفون أمام محكمة التاريخ

الجمعة، 18 ديسمبر 2009 09:00 م
فؤاد قنديل يكتب: المثقفون أمام محكمة التاريخ فؤاد قنديل

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
بات واضحاً فى اعتقادى أن حركة الحياة فى مصر بما فيها حرية الفكر والتعبير تتنازعها أطراف ثلاثة، يتمتع كل منها بسلطان وهيمنة، تتعاظم وتتفاقم كل يوم، لأنها بكل دأب تستغل كل الأوراق التى تملكها والتى لا تملكها كى تكسب أرضاً جديدة ولتزداد قوة ورسوخاً حتى أضحى مستقراً تقريباً أنها المرجعية التى ينبثق عنها كل حكم وكل قرار، مطمئنة إلى أن دوائرها تحيط بكافة العناصر والقوى الصغيرة، وليس هناك من يمكنه أن يشق عصا الطاعة، ومن ثم تراجعت إلى حد كبير الرؤى العقلية والفكر السديد والأسانيد العلمية وحكمة التاريخ ودروسه وكذلك الثوابت القيمية التى تهدى مسيرة الشعوب نحو حقوق الإنسان وحياته الكريمة.

الطرف الأول.. كل من يدعو للتفاهة وتسطيح الفكر ومقاومة الوعى وتمجيد عمليات الإلهاء وتفريغ العقول، وهذا الطرف يقود جماعاته المتغلغلة جهاز التليفزيون بمحطاته الأرضية والفضائية، حيث تهيمن المسلسلات والبرامج التى يتصور القائمون عليها أنها فنية، وهى ليست غير فرص للثرثرة السفيهة، فضلاً عن التربح من حوارات ليس لها أدنى علاقة بالفن والثقافة، وبرامج رياضية حولت حياتنا بكافة مناحيها إلى كرة قدم تجذب الناس – المكوية بأعباء المعيشة والبيروقراطية وضعف الدخول – إلى دائرتها الجهنمية، وفى ركاب ذلك تركض خيول الإعلانات التى لا يحكمها حاكم، إلا فتح صنابير المال، وكذلك الأغانى السقيمة والخليعة، وتتمدد فى كل ذلك كعروق الدم الملوث أعمال متباينة يغذيها الجهل والاستسهال والاسترزاق.. إنهم جميعاً مخلصون لمهمتهم المقدسة، وهى نزع كل ذرة فكر فى رؤوس الجماهير وتحويل منابر المعرفة والثقافة والتعليم والتربية إلى مقاهٍ عامرة بالمشروبات والدخان واللهو والنكات وإرضاء المزاج.

الطرف الثانى.. الجماعات الدينية التى يقودها التعصب الشديد وكذلك كثير من الدعاة الذين حولوا الخطاب الدينى إلى مقارع ومقاصل دون أن يكون لهم دور حقيقى فى إصلاح البنية الاجتماعية والأخلاقية، مع أن حناجرهم تصرخ عبر الميكروفونات مكتفين بتناول سير الصحابة والخلفاء تاركين الحياة المعاصرة مثقلة بالأخطاء من الشعب والحكومة على حد سواء، ويحرص بعضهم على مهاجمة الأقباط وقد أوصانا بهم القرآن والرسول الكريم، خاصة أنهم جزء أصيل من نسيج الوطن، أما من تسول له نفسه أن يقول رأياً يسهم فى دفع عجلة الحياة نحو التطور والعلم والإنتاج والعدل والسلام فما أسهل تكفيره، ولا تتحرك الحكومة لإبداء رأيها، لأن رجالها لا يملكون الفكر الذى يمكنه أن يدرس وينقد ويصحح.

الطرف الثالث.. الحكومات العاجزة بشكل فاضح عن عمل أى شىء مؤثر، عاجزة عن محو الأمية وتنظيم النسل وتطوير التعليم وإنقاذ العاصمة من العشوائيات بكافة أشكالها، عاجزة عن دعم البحث العلمى وعن ترسيخ قيم الإدارة الصحيحة وعن استصلاح الأراضى، عاجزة عن ترشيد الاستهلاك والاستيراد المجنون، عاجزة عن مقاومة الأمراض وعاجزة حتى عن ضبط المرور والقضاء على القمامة والتلوث بكل أنواعه.. عاجزة عن إنشاء حدائق للناس وعاجزة عن حماية النيل وعاجزة عن خلق صناعة وطنية مرموقة تتنافس مع أقل الدول شأناً، لكنها والحق يقال ليست عاجزة عن ردع كل من يخالف توجهاتها وقراراتها التى تنطلق من الرغبة العمياء بالتجارة فى كل شىء، فقد حرصت أن تقوى أجهزة الشرطة وتزيد جنودها وتحدث أدواتها لكى تردع أعدائها من أبناء الشعب الشرفاء.

هذه هى الصورة الحقيقية البائسة لبلاد عاشت بعض الفترات العظيمة، وهؤلاء هم أطراف القيادة التى يعمل كل منها لحسابه ولا اتفاق بينها، إلا بين الطرف الأول والثالث لأن الأخير لا يستغنى عن الأول بأى حال، إذ الحاكم الجاهل أو العاجز لا يستطيع أن يقود العلماء والمفكرين وأصحاب الرأى، والحل السهل يكمن فيما ينهض به الطرف الأول، وهو طرف أول عن جدارة، بمعاونة عصا الحكومة إذا لزم الأمر.

يعيش المصريون إذن على كف عفريت، ويركضون حفاة فوق أسفلت ملتهب ومسامير و أشواك مدببة، ولا يفكرون فى شىء سوى البحث عن سبل النجاة.

وهكذا يواجهنا السؤال الذى لا مفر منه، وهو: ما موقف المثقفين من كل هذا؟
سؤال وجودى وتاريخى وأبشع من سؤال هاملت لنفسه!!
بعض المثقفين مشغول بالبطولات الوهمية على الأرصفة والتناحر مع المخالفين، والبعض غير راضٍ عن الأوضاع، لكنها مسألة لا تخصه، والبعض مازالت آثار عصا الحكومة على ضلوعه وقرر ألا يعاود التجربة، والبعض منتفع بشكل أو بآخر من النظام ويرى أن من الحماقة التعرض له، والبعض قرر أن يحارب بنعومة وينتفع فى الوقت ذاته، وفريق قليل قرر ألا يتوقف ولو وضعوا كل عصى النظام فى أذنيه.

إننا لا نستطيع تجاهل أسباب البعض والسواتر التى يتخفون وراءها، لكن الوطن مصلوب على خشبة ثلاثية تمضى به فى موكب حزين وتعس، وأكاد أسمع صوت التاريخ يقسم بألا يرحم المثقفين المتقاعسين عن القيام بأدوارهم فى مواجهة الأطراف الثلاثة.. التافهون والمتعصبون والحكومات العاجزة.

سوف يمثل المثقفون أمام منصته فى محاكمة قاسية، لأنهم استسلموا أو كادوا، وبعد أن كانوا خط الدفاع الأول والأخير عن قيم التنوير والحرية والعدل والمواطنة وحقوق الإنسان، وكانوا اللاعبين الأساسيين فى الحراك الاجتماعى والسياسى إذا بالكثيرين - فى أزهى عصور الديمقراطية - يقررون وهم فى كامل قواهم العقلية- إلا من رحم ربى - الانتقال إلى مقاعد المتفرجين وصفوف المشاهدين.. يحدقون ويمطون الشفاه أو يخبطون ورق الدومينو على المقاهى كأن البلاد ليست بلادهم.

إن المشهد السياسى والثقافى والإنسانى فى مصر غدا مفتوح ومكشوف، وليس بحاجة إلى جدل وتحليل، وإنما هو بحاجة إلى هبة وإلى تحرك قوى شامل ليس بمعنى الثورة، ولكن بمعنى المقاومة والتصدى بالفكر والعلم والرأى، ويتعين مواجهة الخور الذى تعانى منه القيادات السياسية التى تجهل ما يجرى أو تتجاهله، فالعيون مركزة فقط على اقتناص المناصب وتقسيم الكعكة.

المثقفون من غير شك هم عقل الأمة وقلبها النابض ووجدانها الشاعر وعيونها على المستقبل.. ولابد يعلمون أن الخرق اتسع على الراتق، ولا يفلح الفرقاء المتصدرون للمشهد فى إصلاحه إن حاولوا، بل هم أسبابه، فليتقدموا بالكلمة ويحتجوا بالرأى ويستجمعوا الجهود والأفكار لإعلان صرختهم ضد هذه الأوضاع المتردية على كافة المستويات، فجرد حسامك من غمده.. فليس له بعد أن يغمدا.

الانهيار يشمل كل شىء، فهيا بنا نصرخ ونملأ السماء بأصوات كلماتنا الرافضة لكل ما يمس مصر بالسوء أو يعوق مسيرتها نحو التقدم.

لنكن على قلب رجل واحد لاستنقاذ مصر التى تقبع فوق "أورمة الجزار" لتتخطفها الأطراف غير المؤهلة إلا بالأنياب، ولتقبض الأكف على الأكف وتتعانق الأقلام فى منظومة منسجمة من الغضب النبيل لأجل إنقاذ مصر من حفرة عميقة، حيث تحاصرها قوى قابلة للشك فى ولائها.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة