استيقظت على صرخة أمى تتألم، كالمعتاد تنبش كطفلة صغيرة فى الأشياء التى تعجز عن الإمساك بها بيديها لا بفعل عيب خلقى يطولها بل بفعل الزمن الذى يقصر من قامة المرء حتى يتقدم به العمر فيقترب أكثر إلى الأرض، ربما تمهيداً للعودة إليها كما بدأنا نعووووود وعملاً بمبدأ مكبرنا مصغرنا.
وقعت الفازة على رأس أمى الحبيبة، رأس الحكمة التى ربت أجيالاً بعد أجيال... لتنزف دما وأنزف أنا ألما... اشمأزت خلجات جسدى من منظر الدماء تتدافع من رأسها فدائماً منظر الدماء يفزعنى حتى كدت أجزم بأن القتلة والممثلين بالجثث ومثيرى الحروب كائنات من عوالم أخرى لا نعرف عنها شيئاً وتجسدت فى هيئة بشر وتسللت إلى كوكب الأرض..
اتصلت بابن خالتى الطبيب لأستشيره فى أمر هذا النزيف الذى يدمر نصف كيس من القطن وكدت أمنع نفسى من الاستعانة بالبن لأننى من ساخرى الوصفات الشعبية التى يحفل بها أهل العلم والبسطاء من بلادى ولكن تتخيلوا الحاجة تجعل من المرء مشعوذا وجاهلاً وكل ما لا يتخيله لاجئاً لحل سريع للمشكلة...
طلب منى ابن خالتى أن أرى عما إذا كان الجرح عميقاً برأس أمى أم لا فأظهرت جهلاً طبياً كاملاً وكيف لى أن أعرف أجابنى بأن شفا جلد الرأس يظهر مدى عمق الجرح... آآآه ياربى!!! أيجب أن أخوض فى دماء الجرح لأرى مدى عمقه، يا لا قلوب الجراحين!!!
رغم اشمئزازى وفزعى واضطراب ضربات قلبى لأنظر فى شفا بؤرة من دماء عزيزة إلى قلبى أو حتى أى دماء حتى لو كانت لجرح برأس صهيونى، غير أننى تشجعت ـ تحت وطأة الحاجة وفحصت الجرح فوجده عميقا بعض الشىء.
أخبرنى ابن خالتى الطبيب بتطهير الجرح قدر المستطاع حتى يأتى إلى طائرا رغم طرق وشوارع القاهرة الفاطمية ـ ولا فاطمية ولا حاجة لقد أصبحت ملوخية وكشرية ومهلبية خالص بفعل عفاريت الأسفلت المايكروباص ـ وصل الإسعاف (ابن خالتى الطبيب يا جماعة) بعد صراع مرير مع السيارات والسائقين ليعلن أن الجرح عميق وسيحتاج لأربع غرز "مستريحيين".
ذهبنا لأقرب مستشفى من المنزل لنجدها مستشفى زراعيين... دخل ابن خالتى إلى ملاك الرحمة الموجود بالاستقبال ليعرفه بنفسه كطبيب وهذى خالته المجروحة تحتاج لخياطة.. ثم رطن ابن خالتى بالإنجليزية الطبية ربما للتدليل على أنه طبيب فحولنا إلى الطبيب "النوباتجى" ـ بتعطيش الجيم ـ وظهر من خلفه ملاك آخر لأن الساعة كانت قد تجاوزت الحادية عشر ليلاً وغالباً ملاك الرحمة الأنثى وقعت ومضت إلى عشها، حيث الأولاد والطبيخ ولا عزاء لعمل المرأة..
قام الطبيب المشرئب ـ أى المتجهم جداً وكأنه أجبر على العمل بالطب ـ بتخييط الجرح وابن خالتى معه بينما طلب منى ابن خالتى والممرض الانتظار بالخارج حتى لا يفزعنى منظر الخياطة والدماء وصرخة من أمى ربما تجهشنى بالبكاء.. لا أعرف لماذا طلبوا هذا رغم أننى ذاكرت جيداً أن أمثل التماسك والقوة، لكنهم قرأونى جيدا وقشروا قناعى ليظهر وجه الفتاة الملتاعة التى لو رأت أحداً يخيط رأس أمها ستطلق صوتاً حانياً.... بعد الخياطة والذى منه، أطمأننت أن أمى ليست بحالة سيئة وأن رأسها إذا آلمتها ستستخدم مسكناً ومضاداً حيوياً يساعد على سرعة التئام الجرح....
أعلم أن من خلال كل ما سبق يتساءل القارئ متمنياً السلامة لأمى مطلاً برأسه الكريم وهو يسأل "وأنا مالى بكل ده"؟؟؟
هنا تأتى الإجابة فأهم جزء هو دفع تكاليف الخياطة والتشطيب وأجر الطبيب وإكرامية للممرض على تأدية عمله فى زمن عزت – بفتح العين – فيه القيم....
الممرض طلب من الطبيب –ابن خالتى – مائتى جنيه وخمسوووووون مصرى كنت سأدفع صاغرة حامدة شاكرة لله أنعمه وللطبيب مجهوده....
فاندهشت حينما وجدت ابن خالتى يقول بسلاسة وابتسامة الأطباء على وجهه ـ إذا كانوا لسة بيبتسموا يعنى ـ "لا لا لا مينفعش، نقص شوية يعنى... يا راجل مفيش داعى لمصاريف فتح أوضة و......" وهمس فى أذن الممرض وهو يجادله والطبيب يشاهدهما من بعيد مترقباً وأنا فى قمة اندهاشى وأمى المتعبة لا تعرف ماذا يحدث...".
ما هذا؟؟؟ أنشترى فستاناً أم حذاء حتى نحاول إقلال ثمنه كعادة المصريين؟!!!!!!!!!
أشار لى ابن خالتى بالصمت التام وقادنى وأمى إلى حيث غرفة الاستقبال والخزينة فى أن واحد ومعه فى يده الممرض فى ارتكازه ودية على ساعديه المفتولة العضلات وهو يبتسم من آن لآخر لينطق الممرض ومعه الطبيب فى تبادل نظرات مريب "حاسب يا نبيل الدكتور على مية بس".......!!!!
فما كان من ابن خالتى أن تهلل وجهه بالابتسامة داساً فى يد الممرض ورقة بعشرة جنيهات والامتنان من الجانبين: من الممرض له ومن ابن خالتى للممرض لأنه نطق عدلاً.....
هذا المشهد لن أنساه ما حييت. الطب والدواء والعلاج ينتحران انتحاراً جماعياً وملائكة الرحمة بدون أجنحة يتركونها فى غرفة ما تلبس فى مناسبة أو زيارة لوزير فقط....
لم أفهم سر أن يدفع المريض تكاليف علاجه فيقوم "بالفصال" فيكرمه الطبيب ويخفض المصاريف؟؟؟ أيخفضها لأن المريض ناصح ويعى جيداً مفردات هذا المبلغ المكون من:
(مصاريف فتح الحجرة ـ أجر الممرض ـ شاش ـ نوباتجى بتعطيش الجيم ـ خياطة)؟؟!
لا تسألنى ما المبلغ المطلوب لفتح "الحجرة " ؟؟؟؟ أليست تفتح بالمفاتيح العادية أم أن فتحها يتطلب تصنيع نسخة من مفاتيح، أم أن فتح "الغرفة" يتطلب تطهيرا؟ أبداً، لم أر تطهيرا أو تعقيماً للحجرة التى تمت فيها الخياطة.
خرجت من المستشفى وأنا أتعجب من التصرف الغريب والإكرامية المحسوبة على مريض متسائلة إذا لم يكن لدى ابن خالة طبيب وذهبت أخوض المغامرة وحدى ألم أكن سأدفع المائتى جنيه وخمسون صاغرة ممتنة لسلامة أمى وهم غير مستحقين فعلاً وأن "الحجرة" كانت ستفتح على أى الأحوال؟!!!!!!!!!!!!!!!!
ما علينا... جت سليمة، ما عسى الفقير أن يفعل فى أمر مثل هذا؟؟؟
كان سيأتى بالبن ويترك الجروح لتطيب وحدها.... ربما ستلحمها الطبيعة الرفيقة بنا...
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة