أصدر الشاعر عمر حاذق ديوانا جديدا بعنوان "أصدق شمس الشتاء" عن دار أرابيسك للنشر والترجمة بالقاهرة. يتضمن الديوان ست عشرة قصيدة تفعيلية محورها هو الحب؛ بالإضافة إلى مرثيتين: مرثية لمحمود درويش ومرثية للفنانة التشكيلية الشابة نهر البحر. قدم الديوان أ.د. أحمد درويش بدراسة عن تقنيات الديوان ورؤاه ولغته، حيث رأى أن "الديوان فى مجمله يحمل هذه الروح التى تدل على موهبة شعرية أصيلة، وصقل عبر التدقيق والمراجعة، وقراءة تراثية ومعاصرة، تخلع نفسها على الجسد الذى تصبح جزءًا منه، فيمتصها كما تتمثل المعدة الصحيحة الغذاء الجيد، فيصير لحمًا ودمًا متجانسًا". كما أشار د.درويش إلى أن "الأنثى والبحر يشكلان المداخل الجذابة المغرية لهذا العالم الشعرى الجميل.. و"الرقة" التى تغلف الأنوثة والبحر، وتشع منهما، لا تعنى الضعف ولا السلبية، ولا تختلط بهما، بل تشكل ملامح "القوة الناعمة" التى قد تولد الطاقة أو تفتت الصخور والجبال، كما تصنع قطرات الماء المتجمعة، وقد تزيح الستائر عن مواطن من الإبداع والجمال، يحجبها طغيان الفحولة الهادرة إذا انفرد وحده بمفهوم القوة الفاعلة المنشودة". ورأى أن فى الديوان انتصارا للرقة والضعف على القوة والفحولة، وتتبع هذا الخيط فى قصيدة "لو أنى" التى يخاطب فيها الشاعر جده المتنبى فهو لا يعارضه حول بناء الشعر كما جرت العادة فى المعارضات، لكنه التقط بذكاء محور المعارضة حول مفهوم الشاعر، مما أكسب هذه التجربة مذاقا خاصا، لأنه عارض المتنبى "من تحت عباءته"، ورأى د.درويش فى ذلك امتدادا مخالفا واعيا يحقق فيه الفنان ذاته دون تغيير جلده اتساقا مع نزعة القطيعة مع التراث التى ينساق وراءها بعض نقادنا دون بصيرة بالظرف التاريخى والثقافى الراهن.
وفى تحليل نقدى آخر للقصيدة يرى أ.د. صلاح فضل (فى مقاله المنشور بالأهرام عدد الاثنين 16/7/2007) أن الشاعر الشاب "يتحدى المتنبى بمهارة فنية رائعة، فيجره إلى أرضه ليبارزه فى مكمن كبريائه"، مستدعيا أسلحة المتنبى ذاتها (وهى أبياته فى الفخر)، يقول د. فضل: "لكن الطريف أن شاعرنا الشاب يقع على نقطة الضعف الجوهرية فى شخصية المتنبى وشعره، فقد حال امتلاؤه بذاته، وتضخم طموحاته، بينه وبين العشق... وهكذا ينفجر الشعر وتنبثق قوة الروح من ينابيع الحنان التى تكمن فى آهة البؤس ونبرة الضعف الراجفة النبيلة، هكذا يكتشف الشاعر الشاب أن جده العظيم لم تعمر مدائن روحه بالحب وضراعاته القدسية، ولم تتلون فراشات خياله بثمار العشق" ومن هنا يرى أيضا أن المدهش فى هذه المناورة الشعرية الشابة أنها "تتميز بدرجة عالية من مرونة الخطاب، فتنتقل من ضمير المتكلم إلى المخاطبة الأنثى، قبل أن تعود إلى المتكلم وهو يشفق على مثله الأعلى ويصفه بالمسكنة، لأنه لم يظفر بقلب امرأة مثل رفيقته، كما تعيد القصيدة بذكاء تصويرى لماح ترتيب منظومة القيم التى كان يتفاخر بها الأقدمون، من المجد والعزة والذكر الحسن لتضع فوقها الحب والألفة والحس الإنسانى الوديع الذى يؤثره المعاصرون، والشباب منهم على وجه الخصوص، فى نقد ذاتى حميم لا يتطرف إلى قتل الأب ولا يقع فى بؤرة جحود فضله، بقدر ما يقوى على تصويب منظوره، وفق استراتيجية فنية مبدعة".
ومن التقنيات الشائعة التى رصدها د. أحمد درويش فى الديوان "الصورة المضفورة الإيقاع وهى صورة تعتمد على التوالد الخفى غير المتعسف لصورة من أخرى. مع سريان إشعاع خاص من كل صورة إلى رحم الأخرى والإحساس بمذاق التناغم فى خاتمة اللوحة. إن المقطع التالى، من قصيدة: "أصدق شمس الشتاء" يمكن أن يعبر عن هذا الإحساس الفنى:
وعلِّمْ دموعَكَ كيف تبلل شمسَ المحبينَ / إنْ أشرق الحزنُ فيهم فأبشرْ
وطيّرْ يمامكَ.. / لا بدّ يوما ستخبز كعكا لأطفالها
فتشم حنينَك ينبض بين أناملها، / كالغزال الصغير المخبئ فى العشبِ
إن الطيور تلون ألحانها لا لأفراخها كى تنام
ولكن لأشجارها إن تنفس فى رئتيها الخريفُ وعفّرْ
سيأتى ربيعٌ تُربى له الأرض أطفالها
وسيأتى شتاء صغير على عشقنا وسيكبرْ
فالدموع والشمس واليمام والكعك والأطفال والأنامل والغزال والعشب والطيور والأفراخ والأشجار والخريف والربيع والشتاء، تلتقى جميعًا فى هذه اللوحة الصغيرة التقاءً ناعمًا سلسًا، مع أن بعض صورها تخرج عن "أفق التوقع"، ومن الذى يتوقع وهو يشم الحنين الذى ينبض بين الأنامل أن يظهر له الغزال الصغير المخبأ فى العشب؟ ومن الذى يتوقع أن الطيور هى التى تحنو على الأشجار وتلون لها الألحان، وليست الأشجار هى التى تحنو على الطيور وتوفر لها المأوى؟ إنها نفس الصورة المدهشة التى تكررت فى قصيدة "انعتقت روح سمائي" حين وجدنا الأغصان قد أصبحت يتيمة فى غياب الحمائم، وليست الحمائم مشردة فى غياب الأغصان!".
كما يرصد د.درويش تقنية الحوار مع الأشياء المجردة أو المحسوسة مثل حوار الشاعر مع الحب أو مع السحابة. ويرى فى هذه النزعة الحوارية مؤشرا على ظاهرة أخرى، تتضح بجلاء فى قصائد النفس الطويل، وهى المراوحة بين الغنائية والدرامية للوصول إلى بنية متكاملة تؤدى لحصاد درامى مكتمل باكتمال درجات القصيدة المتنامية بين لحظة البدء ولحظة الختام، وذلك رغم أن بعض القصائد تبدو أحيانا متداخلة الأطراف تؤدى نهايتها لابتداء جديد.
وفى ختام مقدمته يشير د.رويش إلى الجوانب المتعددة لجمال اللغة، ومنها: صفاؤها وصحتها وحيويتها. ويتوقف عند طواعية استخدام المجاز فيها "طواعية تثير التساؤل حول إمكانية إفلات المجاز الجيد من دائرة التراث اللغوى، دون الخروج عليه لتصير اللغة تابعة للمجاز، بدلاً من أن يصبح المجاز تابعًا للغة، كما هو الشأن فى كثير من الإنتاج الشعرى الذى قد يكون جيدًا، لكنه يظل فى دائرة تبعية المجاز للغة، دون أن يحاول اقتحام حدود المجاز المألوف إلى المجاز المبتكر الذى تصير اللغة تابعة له".