- هل تسمحين لى بالجلوس؟
رفعت "مريم" رأسها المستغرقة فى قراءة كتاب بين يديها، وأومأت بابتسامة خفيفة:
- تفضل.
بادرها بالسؤال:
- هل تدرسين الفلسفة؟
- لا.. أنا أدرس الماجستير فى الأدب، وموضوع أطروحتى هو ابن خلدون، لذلك كان لا بد أن أزور إسبانيا حتى أكمل بحثى.
استوقفته إجابتها.. وسألها باندهاش:
- ألستِ إسبانية؟
- لا.. أنا مصرية، وابتسمت مستطردة: لكن الكثيرين هنا يظنونى إسبانية! ربما ملامحى قريبة من ملامحكم، أو أن دمائى العربية تجرى فى عروقكم!
ابتسم "أنتونيو" متأملاً تلك الفتاة المثيرة للاهتمام وقال:
- وكم من الوقت ستمكثين هنا لاستكمال دراستك؟
حركت أصابع كفها بحركة طفولية وقالت:
- حوالى ثلاثة أشهر، ثم بادرت بسؤاله:
- وأنت.. هل تدرس هنا فى جامعة برشلونة؟
- نعم أنا أدرس الإخراج السينمائى، وأعمل فى ذات الوقت فى عدد من الأفلام الروائية الطويلة شاركت فى إخراجها كمساعد مخرج.
رمقته بإعجاب، فقد كانت عيناه العسليتان اللامعتان بذكاء أخّاذ وشعره الكستنائى الطويل الذى يلامس أطراف كتفيه يخرجانه من الكادر الواقعى، فيتراءى لها "جان".. الفتى الأول الوسيم الذى تهيم به الفتيات والنساء فى دور السينما، كذلك كانت نبرة صوته ذات الجرْس الخاص تنفذ إلى الأعماق وتطبع بصمتها بثقة وحضور طاغٍ.
قالت بنبرة حماسية:
- أنا أحب السينما.. أعشقها.
ابتسم فظهرت النغازتان على وجنتيه، وأطلت من نظرته جاذبية لم تفلت "مريم" من تأثيرها!
بادر بدعوتها إلى السينما ومشاهدة فيلم "The beautiful mind" لـ"راسل كرو"، أثناء عرض الفيلم فى قاعة السينما كان "أنتونيو" يختلس النظر بطرف عينه إلى وجه "مريم" مستغرقًا فى تأمل تعبيراتها، وكأنه يخترق تلك الأعماق ويحاول قراءتها.
أحيانًا تستوقفنا أحداث.. يصادفنا أشخاص بعيدون عنا بمسافات، وفى لحظة تختصر المسافات.. تقترب النقطتان حتى تتلامسا فى لحظة سحرية!
هكذا ذابت المسافات بينهما، وتوحدت مشاعرهما بسرعة عجيبة! كانت تجلس إلى جانبه بينما تختلج نبضاتها وتتسارع.. رجفة غريبة تسللت إلى جسدها عندما لامست - دون قصد- ذراعه المتكئ على مسند المقعد.. حاولت السيطرة على انفعالاتها، والتحكم فى تلك التفاعلات التى احتار الأدباء والعلماء والفلاسفة فى تحليلها، وفى النهاية أطلقوا عليها اسم "كيمياء الحب".
ما الذى حدث؟ سؤال ظل يراود تفكيرها منذ التقت "أنتونيو" مصادفة فى "الكوفى شوب" بجامعة برشلونة.. هل يمكن أن يحدث هذا كله فجأة فى وقت لا يقاس؟ in no time كما يقول الأمريكان؟
بعد الفيلم دعاها "أنتونيو" إلى العشاء فى مطعم يونانى قديم صغير، تنضح الحميمية فى كل ركن من أركانه، وتطفو اللمسات التى تحمل أنفاس البشر.. مع العشاء وزجاجة النبيذ الأحمر كان صوت الجيتار يكمل معزوفة السعادة التى طالما داعبت خيال "مريم"، لكنها لم تتصور أن تعيشها واقعًا ملموسًا من لحم ودم.
شغل الحديث عن فيلم "راسل كرو" معظم الوقت أثناء العشاء، كان نقاشهما حول الفيلم وفكرته الإنسانية التى تستند إلى قصة واقعية لعالِم حقيقى حصل على جائزة نوبل رغم إصابته بمرض عقلى خطير هو مرض الفصام.
كانت "مريم" مبهورة بأداء راسل كرو المدهش، وقدرته على معايشة مشاعر بطل الرواية إلى درجة التوحد وقالت:
- لكنى لا أعرف لماذا لا تحظى مثل هذه الأفكار الإنسانية الجميلة باهتمام صناع السينما عندنا فى مصر، حتى عندما يتناولون موضوعًا مشابهًا يلجؤون إلى السخرية والكوميديا، أى أنهم ينظرون إلى أصحاب المشاكل من هذا النوع نظرة غير إنسانية عندما يجعلوا منهم مادة للضحك!
كان "أنتونيو" يستمع إليها باهتمام وإعجاب، ويشعر فى تعليقاتها وآرائها بعقل جميل مخبوء داخل تلك الرأس الدقيق والوجه الجذاب المشع بشحنات خاصة هى مزيج من الدفء والحنان.. الأنوثة والتدفق.. كوكتيل غريب لا يستطيع تحليله وإن كان يستوعبه كلاً لا يتجزأ ويستمتع به وبصاحبته التى اقتحمت حياته فى لحظة قدرية بديعة.
فاجأها "أنتونيو" عندما قال:
- لكن عندكم يوسف شاهين.. المخرج العبقرى الذى أخرج فيلم "باب الحديد".. وأدى فيه دورًا من أصعب الأدوار.. دور مريض عقلى أيضًا.
اتسعت حدقتا "مريم" اندهاشًا وقالت:
- هل شاهدت فيلم "باب الحديد"؟ إنه من علامات السينما المصرية.. لكن كيف وصلت إلى كل هذا؟ أإلى هذا الحد أنت متبحر فى دراسة السينما وعشقها؟!
ابتسم وقال وكأنه يلمّح لمعنى آخر:
- من يحب شيئًا يذهب وراءه إلى آخر الدنيا.. أليس كذلك؟
قبض "أنتونيو" على عينى مريم فى نظرة امتدت لثوانٍ لم تسمح لها عيناه بالإفلات.. ساد الصمت بينهما برهة.. كانت بشرتها قد اكتست بلون الورد بفعل تأثير النبيذ وحرارة المشاعر وسخونة المناقشة والإثارة التى تغلف كل ذلك بغلالة شفافة كأنها عطر أثير!
سألته:
- هل زرت مصر من قبل؟
ابتسم وقال مداعبًا:
- طبعًا زرتها عشرات المرات، وأعرف كل شارع وكل حارة فيها.. أعرف أيضًا مقهى الفيشاوى فى خان الخليلى.
كانت "مريم" مأخوذة وهى تستمع إلى "أنتونيو" تتردد فى أعماقها العديد من الأسئلة: من هذا؟ من أين جاء؟ كيف اقتحم حياتى بهذه السرعة؟ إنه إسبانيى.. يدرس السينما.. مساعد مخرج.. متبحر فى السينما لدرجة أنه شاهد فيلم "باب الحديد".. يزور مصر كثيرًا ويعرف شوارعها وحواريها ومقهى الفيشاوى.. ما هذا اللغز المحير؟ وكيف انجذبت إليه بهذه القوة وأنا أعرفه منذ ساعات قليلة؟ هل يمكن أن يحدث كل هذا فى ساعات؟
قرأ "أنتونيو" تساؤلاتها الحائرة، فقد كانت مكتوبة بوضوح فى عينيه، وكأنه يملك القدرة الخارقة على قراءة الأعماق وما يدور فى عقل الآخر.. بادرها قائلاً:
- أكاد أشعر بكل ما يقلقكِ.. وما يثير فى نفسكِ أسئلة كثيرة!
اندهشت "مريم" مجددًا، لكنها لم تنبس بكلمة.. إنها فى كل لحظة تكتشف أشياء فى هذا الشاب تزيد من حيرتها فى فك اللغز.
قال:
- أنا لم أزر مصر حتى الآن، لكنى قرأت كل شىء عنها.. عشرات أو ربما أكثر من مائة كتاب! عشقتها قبل أن أراها.. إنها أرض الخيال والآثار والفراعنة، لذلك أشعر أننى زرتها وعشت فيها وتجولت فى شوارعها وأزقتها، وكتبت وأخرجت فيلمًا هناك، بل أشعر أحيانًا أننى عشت قصة حب طويلة مع ملكة فرعونية منذ آلاف السنين!
تبتسم "مريم" بينما تستمع إلى "أنتونيو".. تشعر بإثارة من نوع خاص، فالالتقاء بشخص مثل "أنتونيو" يجعلك تعيش الواقع مغموسًا فى الخيال.. أحيانًا ينقلك إلى عوالم بعيدة لم تكن فى يوم من الأيام قد ارتدتها بفكرك وخيالك، لكنه لديه القدرة على أن يستحوذ على اهتمامك ويجعلك جزءا من تلك العوالم البعيدة التى يرتحل إليها بخياله وموهبته السينمائية المحفورة فى أعماقه.
- هل تمانعين أن نكمل السهرة فى بيتى؟
نزل السؤال على رأس "مريم" كالصاعقة.. أفاقت فجأة من تلك النشوة التى كانت تغرق فيها منذ لحظات.. كيف تجرّأ على ذلك؟ هل يظننى فتاة لعوبًا بلا أخلاق أو قيم؟ إنه خطئى من البداية.. كيف أعطى ثقتى الكاملة لإنسان لم أقابله إلا منذ ساعات وأعامله كما لو كنا أصدقاء منذ زمن؟
تتابعت التساؤلات فى ذهنها، بينما كان أنتونيو ينتظر الإجابة على سؤاله ويدفع لـ"المتر دوتيل" حساب العشاء، لاحظ بفراسته تغير ملامحها وتقلص عضلات وجهها.. فهم أن شيئًا ما قد عكّر مزاجها، لكنه لم يفهم ماذا حدث.
أعاد السؤال مرة أخرى:
- هه.. ماذا قلتِ.. أتحبين السهر مثلى أم أنكِ تستيقظين مبكرًا للذهاب إلى الجامعة؟
ارتبكت.. ولم تجد ردًا على سؤاله الصادم لها إلا أن تستعين بالحل الجاهز الذى قدمه إليها من خلال سؤاله نفسه، فقالت:
- أنا فعلاً أصحو مبكرًا للذهاب إلى الجامعة.
- إذن سأصحبكِ لمنزلك وأترككِ تنامين، ثم أذهب أنا إلى عالمى الصاخب..!
* * *
لم تنم مريم فى تلك الليلة إلا سويعات قليلة يتخللها القلق.. تنام قليلاً ثم تصحو وتظل تفكر إلى أن يغلبها النوم مرة أخرى، وهكذا حتى دق جرس المنبه إلى جوارها فأقفلته وقامت.. أحست بجسدها مجهد وعقلها مثقل من فرط التفكير فى ليلة الأمس.
نظرت إلى وجهها فى المرآة فشاهدت علامات الإجهاد واضحة، أخذت "الشاور" الصباحى وارتدت ملابسها.. شربت "ماج" الشاى بالحليب ثم صنعت قهوتها التركية التى أحضرتها معها من مصر، فهى لا تحب إلاها وتفضلها على النسكافيه والكابتشينو.
فى طريقها إلى الجامعة كانت أحداث الأمس تتتابع أمامها وكأنها تشاهد فيلمًا سينمائيًا مثيرًا.. استدعت إحساسها بالإثارة والنشوة.. كم هو جميل وساحر أن يعيش الإنسان تلك المشاعر ويتركها تخترق مسامه وذاكرة حواسه؟
فى المكتبة جلست "مريم" تقرأ فى كتاب: ابن خلدون.. البحر المتوسط فى القرن الرابع عشر.. قيام وسقوط إمبراطوريات، بعد قليل بدأت تدوّن مقتطفات من سطور الكتاب وتحدد صفحات لنسخها.. استغرقها العمل فى رسالتها حتى وقعت عيناها على وجه يحدّق فيها ويتأملها فى هدوء بينما كانت تنجز أعمالها.. كان وجه "أنتونيو".
ارتسمت على ملامحها فرحة المفاجأة، واصطخبت مشاعرها بقوة.. ابتسمت فأشرق وجهها كله وقالت:
- صباح الخير يا "أنتونيو".. إنها مفاجأة جميلة حقًا أن أراك هنا.. ظننت أنك لا تزال نائمًا، فأنت كائن ليلي!
شرد قليلاً داخل عينيها وكأنه يبحث عن شىء وقال:
- لم أنم منذ الأمس، ولا أجد سببًا للنوم! فلأول مرة أواصل مستيقظًا ليومين متتاليين، ومع ذلك لا أشعر بأى تعب! فأنا فى حالة غريبة أشبه بالسباحة فى الهواء.. ألا تجدين تفسيرًا لحالتى يا دكتورة؟!
ابتسمت "مريم" بخجل، فقد كانت تعبيرات "أنتونيو" موحية بالكثير رغم أنه لم يصرح مباشرة بما يريد أن يقوله، لكن المعنى فى بطن الشاعر كما يقولون، وقالت:
- لا بد أنك متعب جدًا الآن.. لماذا لا تذهب إلى بيتك وتنام؟
قام من مقعده واستدار بحركة مسرحية رشيقة، ثم انحنى أمامها فى مشهد تمثيلى وقال:
- هل تسمحين لى جلالتك أن أدعوكِ إلى كونسير فى الأوبرا الليلة؟ أم أن لديك مشروعات أخرى؟
أومأت برأسها فى سعادة بالموافقة وقالت:
- لا.. ليست لدى أية ارتباطات.. سأكون سعيدة بالاستماع إلى الموسيقى فى صحبة فنان كبير مثلك.
- أوكيه -سيدتي- سأمر عليكِ فى الثامنة مساءً.. إلى اللقاء.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة