يأتيها طيفه فى هدوء الليل دفئا وبهجة ولذة، وذكريات مشبعة بالأمانى. تنزل من الطابق العلوى مثقلة بالأسى والحيرة، وقابضة على رجاء لا نهاية له، لكنها محتمية بعشق يسرى فى دمها. تنزل وتجالس أمه، تأنس بملامحها التى ورثها ابنها الغائب، وتجده فى صوت عبد القادر ولفتاته وإيماءاته. فى الضحى العالى تصعد إلى سطح البيت، فترى الجسر القادم من محطة القطار البعيدة، وتقول بعينين دامعتين وفؤاد يغالب اللهفة:
ـ طال الغياب.
ورأته فى النوم طائرا عظيما، يشق الفضاء فى ثبات، بجناحين قويين مفرودين إلى آخر مدى، وطار سريعا نحو عين الشمس، التى كانت تسبح فى حمرة الشفق. تلون جناحاه فصارا جمرتين مدببتين تلهبان الهواء. فجأة صار الريش والأجنحة والجسد العملاق كتلة من لهب، ثم غبارا هائلا من رماد، داعبه هواء لافح، فغطى النور الأخير للشمس، واسودت الدنيا بكاملها. وفى قاع الظلام الدامس هبت وفاء مذعورة من نومها، ونادت بصوت مبحوح:
ـ يا على.
واقتحم صوتها أذنى الأم، فظنت أنه قد عاد من دون أن يمر عليها، فخرجت متهللة، وراحت تصعد السلم والفرحة تسبقها. قبل باب الغرفة بخطوات نادت:
ـ يا وفاء.
وخرجت إليها بشعر هائم على كتفيها ووجهها، الذى يتصبب عرقا. ونظرت إليها بعينين دامعتين، وقالت:
ـ نعم يا أمى.
ـ سمعتك تنادين زوجك ... هل أتى؟
ـ لا يا أمى... كان معى فى الحلم.
وعادت لتنزل السلالم على مهل، ويأتى إليها صوت وفاء، غارقا فى الرجاء:
ـ إن شاء الله يأتى قريبا يا أمى.
وفى الليل وصل إلى سمعها صوت أبو سليمان وهو ينشد على المصطبة بين الرجال الهائمين بسيرة فتى بنى هلال:
"ع اللى راح غاب وما ردش
آخ لو جانى منه جوابـــا
غيابــه عليــه ما لدش
أنا فيه مغـرم صبابــا"
***
وطالت مدة الغياب ولم تجد وفاء من عزاء عن فراق على إلا الذكريات. وذات ظهر وجدت قلبها يرتج داخل صدرها ويفور، واجتاحها شعور مبهم بالخوف والحيرة، وسيطرت عليها رغبة فى البكاء، فوضعت وجهها بين كفيها، ونضحت الدموع من بين أصابعها، وتساقطت على الوسادة.
نزلت إلى أرض الحجرة، وأسندت رأسها إلى السرير، وغرقت فى نثار من حكايتهما، تدافع مثل مشاهد السينما الصامتة، حتى استقر عند اللحظة التى تحياها. ونفضت رأسها المثقل بالصور، فتطايرت فى كل مكان، وحلت مكانها جلبة عارمة. أصوات تداخلت مختلطة بأهازيج وتصفيق فرقع ثم خمد. الصوت الذى تبينته كان لرفاعى. قال بصوت تملأه الفرحة.
ـ افتح الراديو يا عم عبد القادر.
وجاء صوت آخر:
ـ عبرنا القناة.
وتوالت البيانات العسكرية، فطمرت تحتها أسى السنين الفائتة. ولم تجد وفاء سلوى إلا الذكريات. كانت ذكريات قليلة فأعادتها مرات ومرات، حتى كادت أن تجن. ووجدت نفسها تبحث عما لا تعرفه. وسنحت لها الفرصة حين تعرفت على حبيبة ميخائيل. جاءتها ذات عصر، بقلب ملهوف حائر يبحث أيضا عن السلوى. وقالت لها وفاء بعينين متسعتين، ووجه مملوء بالرضاء:
ـ حدثينى عنه يا جورجيت.
فتاهت فى ذكريات جميلة، وقالت:
ـ لم يكن يفارق ميخائيل.
وتوالت لقاءاتهما، وصارتا صديقتين. كانت جورجيت بنت قرية الإسماعيلية أبا عن جد، فتحت عينيها على ميخائيل. لعبت معه فى الطفولة الأولى. رأته وهو يكبر أمامها حتى صار فتى أحلامها. ومنها عرفت وفاء أن زوجها الغائب كان طفلا متمردا.
قالت لها جورجيت:
ـ أول ما طالنى الوعى رأيتهما ذاهبين إلى المدرسة.
والمدرسة كانت تبعد عن البلدة أربعة كيلومترات، بناية من طابقين عريضين، جادت بها الحكومة على أهل قرية "زهرة" ونواحيها، فتدفق خيال الفلاحين إلى آخر مدى، ورأوا فى أحلام اليقظة أولادهم ضباطا ومهندسين وأطباء ومدرسين وموظفين فى كل مكان. سارع كثيرون منهم إلى تقديم أوراق أولادهم إلى المدرسة الجديدة، لكن قليلين من الأبناء واصلوا تعليمهم، عازمين على أن يحولوا أحلام الآباء إلى واقع جديد.
وتسرب الأولاد من التعليم كذكور النحل التى تتساقط تباعا فى رحلتها الأثيرة لتلقيح الملكة. يأتى كل عام دراسى جديد ليشهد انتقال كثيرين من الفصول إلى الحقول. وجاء الدور على الصديقين، فتركا المدرسة فى يوم واحد، متذرعين بافتقاد الرغبة فى مواصلة التعليم. وعبثا حاول عبد القادر وونيس أن يثنيهما عن قرارهما الأليم. حتى الزجر وقطع المصروف والحبس والضرب لم يفلح فى إعادتهما إلى رحاب التعليم. ووجد عبد القادر سلوى فى ابنه الأصغر فهمى الذى كان يشق طريقه التعليمى بنجاح لا بأس به، وفى الفدادين التى يملكها. وقال بعد أن بلغ اليأس أشده:
ـ يباشر الأرض، ويكفيه أنه تعلم القراءة والكتابة.
أما ونيس فوجد فى فقره مبررا للتواطؤ مع الصمت والصبر، وقال لنفسه فى مرارة:
ـ للتعليم ناسه.
ولامته أم ميخائيل وقالت باكية:
ـ التعليم مجانى.
فابتسم عن أسنان أكلها السوس وقال:
ـ لا ندفع أجر المدرس ولا ثمن التختة التى يجلس عليها، لكن المصاريف الأخرى ستكون فى المستقبل أكبر من طاقتنا.
وخرج الاثنان من المدرسة قابضين على كلمات منظومة، وحروف محفورة فى الذاكرة، بوسع العقل أن يشكلها كلمات، واليد تضعها على الورق، فباتت يتيهان على بقية الصبية، قائلين فى فخر:
ـ لسنا أميين.
***
لكن على لم ينس رائحة الكتب والورق، فكان يرسل بين حين وآخر مع أى أحد ذاهب إلى مدينة المنيا ليشترى له صحيفة "الأخبار"، وأحيانا كان يشترى كتبا دينية وقصصا من مكتبات المنيا، ويستعيرها منه ميخائيل. واستهوتهما السيرة الهلالية فحفظا مقاطع منها، وذابا فى مآثر صاحبها، فنبتت بين جوانحهما البطولة. وعرفا بعدها طريقهما إلى سير الأبطال الرائعين، فقرءا أجزاء متفرقة من "الزير سالم" و"سيف بن ذى يزن" و"حمزة البهلوان"، و"الظاهر بيبرس" و"على الزيبق".
وفى مقتبل المراهقة تخيل كل منهما أنه بطل أسطورى، أو هكذا حلم. ولم تكن هناك صحارى شاسعة يقاتلون فيها، ولا سيوف يقاتلون بها، ولا غيد حسان وعروش يقاتلون من أجلها، لكنهم وجدوا فى حماية أهل القرية المستضعفين من بطش أولاد الليل هدفا نبيلا، يسمو كثيرا عن بعض أهداف أبطالهم الشعبيين، المكللين بالحكايات الغارقة فى الخيال. لكن أكثر ما أحزنهم أن ميدان المعركة لم يعد مكشوفا ليرى الناس بطولاتهم بملء أبصارهم، والسلاح لم يعد يحتاج إلى فرسان، فقد بات بمقدور أى شخص، خائف وخائر أن يطلق رصاصة لا يتعدى ثمنها قروشا معدودات فيحصد بها روح أحدهم فى غفلة من الناس والزمن.
***
وتتوه جورجيت فى ذكريات لا تزال طازجة وتقول:
ـ غيابه على عينى
كانت تراه من بعيد، لكن شيئا لا تعرفه بدأ ينمو داخلها، حتى امتلأ صدرها بصورته، فرأتها أمامها فى كل مكان، على الحوائط الغارقة فى نور النهار، والمتدثرة بظلمة الليل. واختلقت حيلا لا حصر لها حتى تكون أمام عينيه دوما. ورآها ذات عصر، فسكنت مقلتيه مسربلة بشعاع ذهبى ناعس، لم يلبث أن تسرب إلى دمه، فانتفض قلبه بشيء لم يجربه وقال فى نفسه:
ـ إنها هى..
وحكى كثيرا عنها لصديقه، فلفت انتباهه إلى دنيا لم يفكر فيها يوما. وتأججت فى قلب على نيران لم يجد فى بلدته الصغيرة من تطفئها. وقال لميخائيل والليل يفر أمام نور الفجر المتدفق:
ـ اليوم فقط اهتز قلبى.
فنظر إليه متفحصا، فقال بصوت خفيض رقيق لم يجربه قبل هذه اللحظة:
ـ وفاء...
***
ذات ضحى هلت من بعيد ضاربة الودع. عرافة غجرية ترطن، فتشنف لها الآذان، وتسجع فتسحر أفئدة تواقة إلى الأمل. جاءت ملفوفة فى ثوبها الأسود، وعلى رأسها قفة صغيرة، وفى يدها طفلها الذى داست قدماه تراب آلاف القرى والنجوع.
وأطلقت صوتا ملحنا متمايلا طروبا:
ـ "أبين زين وأضرب رمل".
ولسعت الجملة قلب أم على وعقلها، فقامت تجرى باحثة عن مصدر الصوت، ونادت على الغجرية:
ـ تعالى يا فوز.
وكانت فوز تعرف أن صاحبة الصوت سخية معها، فهرولت إليها. جلست ونظرت فى عينيها بامتنان وقالت:
ـ ارمى بياضك يا حاجة.
فدست فى يدها ورقة فئة ربع الجنيه، فقالت لها الغجرية:
ـ اضمرى.
فردت باسمة:
ـ لو عرفت ما فى ضميرى، سأعطيك المزيد.
وقلبت الغجرية الودع، وخطت على الرمل فى هدوء. ونطقت لها الأحجار الساحرة بما لا يقال، واتسعت حفنة الرمل أمامها فصارت صحراء مترامية. أما الودع فتحول إلى ماكينات قاسية تزمجر وتجرى على الرمل والصخور، وتمرق فى الفضاء، لتبذر حبات من لهب. وحملقت الغجرية فرأت هناك شبحا يطير بين النار الحارقة، وكأن أم على تجرى وراءه ملهوفة، ثم لم يلبث أن تحول جسدها إلى قلب. مضغة من دم ولحم، تجرى على قدمين، ثم باتت شحنة من أثير، وذابت فى الدخان الأسود، المسافر إلى السماء الحمراء.
وعادت الغجرية من رحلة الحملقة فى جوف الرمل، ونظرت إلى أم على وقالت:
"حبيب غايب، قلبك عليه دايب... تستنيه مسا وصباح ... وخاطرك مش مرتاح ... معاك ووراك بنية جميلة ... زهرة طرية، وقطرة ندية، ما فرحت ولا اتهنت ... تستنى زيك ليل ونهار، والقلب والعقل محتار ... والبال مشغول .. أقول؟...
ـ قولى..
ـ "ربك كريم، معين الغلابة ... قادر يولف الغنم مع الديابة ... الصبر طيب وفرجه قريب مهما الصبر يطول... أقول؟..
ـ قولى..
ـ المكتوب على الجبين لا زم تشوفه العين ...
ـ وبعد يا فوز ...
ـ الرمل ما قال غير ما قلت ... والودع قدامك، يمكن بكرة يكشف سره، ويبين أمره ... قولى إن شاء الله.
ـ إن شاء الله.
ـ شهر وأعود، وفى نفس المكان نقعد سوا ونوشوش الودع، وربك موجود.
ودست أم على يدها فى جيبها وأخرجت قطعة معدنية فئة العشرة قروش، ومدتها إليها، لكن فوز قالت بصوت هادئ وعينين ثابتتين:
ـ"شهر وأعود، أطمن قلبك، وآخد بياضك".
واختفت العرافة مع انحناء الشارع، وراح نداؤها يخفت شيئا فشيئا حتى تلاشى. وعادت أم على إلى نفسها بعد طول شرود، وطفرت من عينيها دموع ساخنة، وهى تستعيد ما استقر فى الذاكرة من الكلام المسجوع الملغز، المفتوح على كل النهايات.
ورآها عبد القادر قانطة، لا يستقر لها حال، ولا يزورها نسيان، فقال لها غاضبا:
ـ كان يجب ألا تأتى العرافة.
فمدت بصرها إليه، ثم طوته سريعا، ولم تنطق بحرف واحد، فواصل هو غضبه:
ـ ألم أقل لك من قبل أن هذا حرام.
فأعادت إليه عينين تنضحان بدمع ساخن، وقالت:
ـ أنا معذورة يا أبو علي.
ـ أنت تدفعين ثمن عصيانك.
ـ أتسميه عصيانا؟
وصمت برهة ثم قال:
ـ لا يعلم الغيب إلا الله.
فمسحت دمعتان ساحتا على خدها، وقالت:
ـ لم أبحث عن معرفة الغيب، بل الطمأنينة.
ـ ووجدت ما زادك قلقا.
ـ هذا ما جرى.
وتنهد فى ألم وقال:
ـ فى كلام المنجمين ما يطمئن ويقلق فى آن ... وعلى الإنسان اختيار مساره.
ـ هذه المرة كانت مختلفة.
ـ من؟
ـ العرافة.
ـ كيف؟
ـ تكلمت من دون أن تجود بابتسامة واحدة، وانقبضت حين وشوشت الودع، وقامت ولم تطلب منى أى نقود أخرى.
ـ أنت تبالغين.
ـ قلبى يقول أن ابنى غير مستريح.
ـ إذا هو قلبك، وليس كلام العرافة.
ـ ما قالته العرافة زادنى يقينا بأننا مقبلون على نائبة.
وزفر عبد القادر وقال:
ـ قومى توضئى ... موعد صلاة الظهر قد أزف.
وفرغت من صلاتها على عجل، ونظرت إلى عبد القادر وقالت بعد أن تلت التسابيح والأدعية:
ـ أنت تكره الودع، فما بالك لو ذهبت إلى الشيخ حسن ليفتح لى الكتاب.
فتمتم بكلمات لم تتبينها، ثم قال:
ـ لا بأس إن كان هذا سيريحك.
وذهبت إلى الشيخ بعد صلاة العصر، يستبد بها القلق، ويرفرف فيها الأمل. وفتح "الكتاب"، وراح يقرأ "عدية يس"، وبعضا من قصار السور، وآيات متفرقات من الذكر الحكيم. ولما انتهى غاب دقائق فى نفسه، من دون أن يكلمها أو ينظر إليها. ورفع عينيه بعيدا، وزحزحهما حتى استقرتا فى عينيها وقال:
ـ إن الله مع الصابرين.
فزادها قوله قلقا، واستفسرت عما يقصد، فلم يزد على ما تفوه به، وقال لها وهو يودعها:
ـ إن الله لطيف بعباده.
وكادت أن تصرخ فى وجهه، لكنها تمالكت نفسها، وقالت له باكية:
ـ جئتك بقلق يأكلنى، وهاأنا أخرج من عندك بأزيد مما جئت به.
فقال لها بملامح اكتست بمسحة حزن:
ـ سأقص عليك واحدة من قصص القرآن لعل القلق يزول.
وراح يحكى لها قصة سيدنا موسى عليه السلام مع العبد الصالح الخضر. ولما انتهى قال:
ـ يعلم ما لا نعلم وهو علام الغيوب.
ونظر إليها وهى تهم للخروج من عتبة داره وقال:
ـ صلى لله وزيدى فى الدعاء لابنك فى السجود، فأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
وخرجت من عنده بذهن شارد، وقلب مرتجف. وغاض الأمل فى تراب الشارع الممتد من بيت الشيخ إلى بيتها. لم يتهاد لها نوم فى تلك الليلة، وساحت فى ظنون لانهاية لها، فلما أشرقت الشمس، قامت مترنحة إلى صالة الدار. جلست على الدكة، ونادت بصوت تردد صداه فى أرجاء المنزل:
ـ يا علي.
ولم تبرد نارها، وقض القلق مضجعها، فباتت ليلتين أخريين من دون أن تغفو لها عين. وفى ضحى اليوم الثالث برقت فى رأسها فكرة أخرى، غير الودع وفتح الكتاب. تذكرت كل ما سمعته عن كرامات أولياء الله الصالحين، وقالت فى نفسها "لن يدلنى غير رجل مرفوع عنه الحجاب". وتوجهت على الفور إلى الحظيرة، وأمسكت ديكا روميا، وأرنبا كبيرا، ودجاجتين، ثم دلفت إلى حجرة الكرار فأخذت منها أكياسا من الأرز والسكر، وكالت ربعين من القمح، وهشمت قطعة كبيرة من الزبد، ورصت عشرين قطعة من الجبن، ووضعت كل هذا فى قفة جديدة، ورفعتها إلى رأسها، وقالت لعبد القادر:
ـ سأذهب إلى الشيخ عمران.
وعبثا حاول الرجل إثناءها عما أرادت، فقال فى نهاية الأمر خاضعا:
ـ اذهبى إن كان هذا سيريحك.
وخرجت وشمس الظهيرة تلهب رؤوس الفلاحين الكادحين فى الغيطان. وعبرت النيل إلى الشيخ عمران وفى قلبها وجيب ملهم، وفى عينيها جلال وسكينة. تذكرت فى الطريق إلى قرية "جبل الطير" كل مآثره وكراماته التى يتداولها الناس بملء أفواههم.
بلغت بيت الشيخ عمران وآذان العصر يلف الشوارع الضيقة المتعرجة، ويتدفق إلى الجبل الأشم فيرتد صداه إلى النيل والهواء المنطلق صافيا إلى الضفة الأخرى. طرقت الباب ففتحت لها زوجته بوجه باش، وعينين فياضتين برضاء راسخ. وقالت لها:
ـ تفضلى يا حاجة.
وسألتها عن الشيخ، فأشارت إلى باب موصد وقالت:
ـ فى خلوته.
وطلبت منها أن تستأذنه فى الدخول، فمضت إليه وتركتها تجول ببصرها فى حوائط البيت البسيط. ولفتت انتباهها صورة معلقة فى ركن الحائط، لشخص يرتدى زيا عسكريا، فدق قلبها سريعا، وامتلأ بصورة الحبيب الغائب.
وجاءتها مطأطئة الرأس وقالت فى خجل:
ـ الشيخ غارق فى التسابيح.
وصمتت برهة وقالت:
ـ فى حاله هذه لا يسمع أحدا.
فامتقع لون أم على وقالت بصوت خفيض متوجع:
ـ لكننى جئت إليه من بلد بعيد.
فامتلأ وجه المرأة بالعطف عليها، لكنها قالت:
ـ فى حاله هذه لا يرغب فى مقابلة أحد.
وتغضن وجه أم على بكدر شديد، وأطرقت صامتة، فقالت لها زوجة الشيخ:
ـ ربما ينهى خلوته بعد قليل ويقابلك.
فارتد إليها بعض الاطمئنان، وقالت:
ـ سأنتظر.
ثم أشارت إلى القفة وقالت:
ـ شيء من فضل خير الشيخ عمران.
فقالت لها المرأة باسمة:
ـ من خير ربنا.
فشعرت بحرج طارئ، وقالت:
ـ نعم وأكرم بالله.
ومرت ساعة عليها، ساحت خلالها فى خواطر وذكريات لا حدود لها، حتى أنها لم تشعر بهذا المكان الصامت، ولا بالشيخ الغارق فى بحار التسابيح الجليلة.
وجاء صوته من الداخل سالكا قويا كريح نقية:
ـ يا أم عبد الباقي.
ودخلت إليه زوجته، وعادت تقول لأم علي:
ـ تفضلي.
وقامت إليه يسرع الفضول من خطوات فتبطئها الهيبة. وجلست بين يديه ساكنة كيمامة هدها طول الطيران. وساد صمت قطعته هى بكلمات مبعثرة:
ـ ج..ئـ.. تـ .. إلـ... ك راغـ........
لكنه قاطعها بعينين مغمضتين قائلا:
ـ جاء بك إلينا الغائب الحبيب.
والتزمت الصمت، فقال:
ـ هو فى مكان غير مكاننا ... فى دنيا غير دنيانا، طال سفره، وأمامه طريق لن تخطئها قدمان.
ولم تحط خبرا بكثير من كلامه، فالتحفت بالصمت والانتظار، وراح هو يكمل ما بدأه:
ـ أمامه امتحان كبير، سينعم فيه بالسكينة.
ـ امتحان؟!!
ـ كلنا ضيوف الله فى بيته الكبير... نأتى ونذهب ولا ينقص غيابنا من ملكه شيئا.
ـ سبحان الله.
ـ أقدار لا راد لها، وأيام نقضيها غافلين. طوبى لمن عرف فالتزم، ومن خاف فاجتنب.
وسرى القلق مرة أخرى فى عروقها، فقال لها وهو يهز رأسه:
ـ سيهديك الله صبرا جميلا.
وتذكرت ما قالته العرافة والشيخ حسن، فقالت فى لهفة:
ـ زدنى يا شيخ، أكرمك الله.
فصمت طويلا ثم قال:
ـ قلت ما عرفته، ولا يعلم الغيب إلا هو.
ـ لا أزال قلقة يا شيخ.
لكنه لم يرد عليها. صمت برهة، ثم نادى على زوجته، فأتته مسرعة. مالت برأسها عليه، فهمس فى أذنها بكلام لم تتبينه أم على. خرجت المرأة وعادت والقفة بين يديها، على هيئتها الأولى لم تمسس ما بها يد. وضعتها أمام أم على، فقال الشيخ:
ـ خذيها لمن يستحقها.
فنظرت إليه مستفهمة، فقال:
ـ وزعى ما فيها على فقراء بلدكم، فما أكثرهم.
ـ جئت بها هدية لك يا مولانا.
فتبسم ضاحكا، وقال:
ـ قبلتها، وهاأنا أرسلها معك لمن يستحقها ... ما أنت إلا حاملة أمانة.
وعادت من جبل الطير والشمس تلملم أجنحتها الذهبية، استعدادا للرحيل. وعلى الشاطئ الغربى للنيل وجدت عبد القادر وونيس فى انتظارها. حكت لهما ما استقر فى وعيها وذاكرتها من كلام الشيخ، وقالت:
ـ يبدو أنه لا سبيل سوى الصبر.
وقال ونيس ضاحكا:
ـ حالك لا يختلف عن حال أم ميخائيل.
فتطلعت إليه فقال:
ـ بالأمس صممت أن تذهب إلى قس فى طحا الأعمدة، يعرف الطالع.
وأتته قبيل الظهر، وأسرت إليه بمواجعها، ثم قالت فى رجاء:
ـ باركه يا أبانا.
فتبسم ضاحكا، وقال فى صوت خفيض واثق:
ـ هو مبارك ... الرب يرعاه.
فامتلأت عيناها بالدموع وقالت باكية:
ـ هل سيعود إلينا قريبا.
فتاه فى نفسه صامتا، ثم عاد إليها فوجدها مطرقة حزينة، فقال لها بنبرة محايدة:
ـ " لا يكون ليل هناك، ولا يحتاجون إلى سراج أو نور شمس".
ولم تفهم ما يقصده، فرفعت رأسها إليه وسألته متلهفة:
ـ هل هو بخير؟
فقال لها من دون أن ينظر إليها:
ـ " لا تستغربوا البلوى المحرقة التى بينكم حادثة، لأجل امتحانكم، كأنه أصابكم أمر غريب، بل كما اشتركتم فى آلام المسيح، افرحوا لكى تفرحوا فى استعلاء مجده أيضا مبتهجين".
ووخزها كلامه فى قلبها، فوضعت يدها عليه، وقالت مسترحمة:
ـ زدنى يا أبانا.
فقال على الفور، وهو يربت كتفها:
ـ " ها نحن نطوب الصابرين"
واسترحمته مرة ثانية، لكنه لم يزد على قوله، فقامت من عنده قابضة على جمر من القلق والخوف.
***
ووجدت كل منهما السلوى فى الأخرى، فجلستا ذات ليلة، تراجعان ما قيل لهما، وتفتشان فيه عن أى بارقة أمل. ولكما كانت إحداهما تعثر على كلمات قليلة مطمئنة، تنسفها الثانية بكلمات أخرى، فقررتا فى نهاية المطاف أن تتبادلا المهمة، فتذهب أم على إلى القس، وتذهب أم ميخائيل إلى الشيخ عمران.
وعادتا من رحلتيهما المجهدتين بالكلام نفسه تقريبا، ولم يبد أمامهما من سبيل سوى الصبر والانتظار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* فصل من رواية ستصدر قريبا عن "الدار للطباعة والنشر" تحت العنوان ذاته.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة