محمد معوض يكتب: قصة أهديها للأستاذ مكرم والأستاذ ضياء

الخميس، 10 ديسمبر 2009 01:44 م
محمد معوض يكتب: قصة أهديها للأستاذ مكرم والأستاذ ضياء

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا أعرف إذا كان من حقى أن أروى قصته أم لا، ولا أريد لمشاعرى – تلك المأساوية منها – أن تسيطر على وأن أسطر قصة بطل مكافح ظل يجاهد من أجل أن يصل لحلمه، رغم ما واجهه كل يوم من أولئك الذين لا يجدون حرج فى أن يمسحوا الأحلام من قلوب وعقول الحالمين.... محمد غنايم طه..... صحفى شاب جمعتنى به الصدفة البحتة... حين كان على أعتاب غزل حلمه... كنت أنا معه هناك أصنع ذات الغزل.... باكورة حلم يتشكل... لم تجمعنى به صداقة... كان دائما ما يؤثر الصمت على الكلام.... سيكون غريبا عليك عزيزى القارئ أن تؤمن معى بهذه الحقيقة.... يكتب شخص ما مرثية شخص ما.... وهو لم يتحدث معه من قبل أصلا.... لكن عزائى فى ذلك... أن ذات الطريق جمعنا... وأننى أجد أن من حقه على أن أضع أمام الجميع تفاصيل قصة مكافح توقفت جوارحه عن العمل لكننى أدرك أن قلبه – وإن وورى الثرى – ما زال ينبض بالحياة، سأكتب قصتك يا محمد لأننى أدرك جيدا أنها ستنزل كاللعنات على أولئك المتورطين فى نسج تفاصيلها....

فى هذه البلد التى تحتوى على كل شىء وليس فيها أى شىء، البلد التى يتلون أفقها بحرمان ممض وقلق لا يرحم، تجد نفسك مضطرا أن تسير داخل نفق ضيق دربه جاف رغم أنك لا ترى أمامك ثمة ضوء فى نهاية النفق.... يكون عليك أن تمشى فى جنازتك رغم أنفك...

أن يكون المرء شجاعاً طالما هو ليس فى حاجة للشجاعة... ولكنه يتهاوى حينما يصبح عليه أن يفهم الشجاعة بمعنى الاستسلام...

ولد محمد غنايم طه فى إحدى القرى بمحافظة الشرقية.... كانت متطلبات حلمه الذى ظل يراوده فى أن يكون صحفيا، تقضى بأن يخوض غمار تلك القاهرة... كان يعلم جيدا أنه ربما يواجه من التحديات ما هو كفيل بأن يعود به من حيث أتى.... كتب محمد لرئيس تحرير أحد الإصدارات فى الأهرام رسالة مفادها... أننى لا أملك إلا نفسى وقلمى فهل من سبيل... وقد أرفق بعضا مما كتب فى فترة الجامعة.... وحينما تلقى ردا من المجلة... ردد فى نفسه كلمات لقنه أبوه إياها.... أن يا بنى اصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين..... أدرك محمد أن الفرصة جاءت... وأن عليه أن يقتنصها... وحين وطأت قدماه سلالم مؤسسة الأهرام العريقة التى لم يكن يوما ما يحلم أن يدخلها زائرا ليدخلها صحفيا.... أدرك معنى كلمة أجر التى كانت تمر على لسانه خفيفة رغم أنها فى القدر ثقيلة..... وطأت قدماه سلالم الأهرام ودخل بكل ثقة من بوابتها... وحين سأله الأمن... أجاب بكل ثقة.... موعد مع مساعد رئيس التحرير فلان الفلانى.... بعدها ظل يتطلع فى الجدران ... حيث الصور المنحوتة لكبار الصحفيين ... راح يملى ناظريه بصور أولئك الذين طالما راوده حلم أن يكتب يوما ما على ذات الورق الذى كتبوا عليه.... قادته قدماه بعد ذلك إلى حيث سيقابل مساعد رئيس التحرير .... كلما اقتربت به خطاه إلى حيث المكان ... اقترب الحلم والدفء معا إلى قلبه .... دخل الغرفة فوجد أمثاله من الطامحين وقد لمعت أعينهم بذات الحلم ... وحينما جلس ليستمع معهم لمساعد رئيس التحرير ... ظنوا جميعا أن الحلم يقترب ويقترب ... كتبوا ... ونشر لهم ... كان أول تحقيق صحفى كتبه محمد عنوانه .... على فيض الكريم .... وكأنه أراد ان يرسل برسالة لأقرانه ليصبروا .. رسالة مؤداها ياليت قومى يعلمون .... توالت تحقيقاته وزملاؤه من الطامحين على إصدارات المطبوعة.... كان محمد يمسك بصفحات أعماله ويردد ... تحقيق محمد غنايم.... تحقيق محمد غنايم طه .... مع كل صدى تكرار كان يحس بحلمه يقترب منه أكثر ... لم تكن تلك الجنيهات القليلة التى يحصل عليها فى نهاية كل شهر عند محمد إلا كنوزا من الذهب.... فقد كانت فى عقله مرتبطة بكل حرف كتبه ليشكل جملة .... كان يؤمن بأن نبتة حلمه تحتاج إلى مزيد من الرى ... فكان يشترى بمكافأته أقلاما وأوراقا... لم يلتفت يوما للون ملابس براقة كان يضوى فى طريقه إلى سكنه المؤقت بالقاهرة فى كل يوم ... كان يزداد إيمانه بحلمه أكثر فأكثر .... وكان حلمه أملا يبرر له ألم يومه إذ كان يحدق للأمام ويدوس على أشواك الدرب الجاف.

كان محمد يسمع فى كل يوم كلمات تنزل كمعاول الهدم على لبنات حلمه الذى مازال يتشكل... مفيش تعيينات .... إحمدوا ربنا أن أسماءكم تكتب على الموضوعات .... وعندما بدأ يدرك الحقيقة شيئا فشيئا... يدرك أن الذى ظنه حلما لم يكن يوما كذلك ... أدرك أن تجربته هذه لم تكن إلا سراب... أن تقترب من حلمك أكثر فيبتعد هو عنك أكثر .... أدرك محمد حقيقة أنهم ما اتوا به إلى هنا إلا ليكمل الصورة لا أن يشارك فى صنعها ... أنه كالذى دخل غرفة مليئة بالورود فظل يشتم رائحتها حتى استيقظ من عبيرها على وقع ردة الباب القوية التى أدرك بعدها أن هذا المكان ما هو إلا سجن وإن امتلأ بالورود .... أجيال وأجيال قبله ماتت على أعتاب الأهرام والمؤسسات الصحفية الكبرى ... لأن جيلا بعينه من الصابغين رؤسهم فمعمرين لا يريدون أن يراوحوا مكانهم ... أو أن يسلموا أقلامهم طوعا لأولئك الشباب لياخذوا دورهم وفرصتهم.

كان محمد يعيش من أجل غد لا خوف فيه.. كان يجوع من أجل أن يشبع ذات يوم.. لكن السماء، والأرض، وكل شىء، كانوا على شكل مغاير لأماله... لقد مضت السنون قاسية بطيئة.. وحين وجد نفسه يكبر وتسلم عائلته كى يعطيها اللقمة التى أعطته يوم لم يكن يستطيع أن ينتزعها بنفسه.. أدرك أن المسئولية شىء جميل... ولكن الرجل الذى يواجه مسئولية لا يقدر على احتمالها تسلب رجولته شيئا فشيئا تحت ضغط الطلب... أدرك محمد هذا المعنى جيدا بعد أن تزوج وكان له من الأولاد ثلاثة، أدرك أن عليه أن يرحل ... نعم ... أن يترك ما صنعه من باكورة حلم ويرحل ... راودته فكرة أنه لو ترك هذا المكان المترهل إداريا ربما يجد فرصته.... لكنه سرعان ما أدرك بانتقاله لصحيفة أخرى ومكان آخر .... أنه يسير فى جنازته رغم أنفه .... رحل من مؤسسة قومية لأخرى ... دار التعاون هذه المرة .... تجربة صحفية جديدة مع جريدة يومية ... ربما يجعل الله له فيها سبيل .... كثيرا ما راوده حلم أن يحمل بطاقة صحفى من نقابة الصحفيين ... لكن معاييرا جامدة كان يصطدم بها فى كل يوم .... فى المسائية كتب ... ونشروا ... ومع كل مبلغ ضئيل كان يتلقاه ... كان يدرك حجم المسئولية التى تلقى على عاتقه ويبتسم ويقول .... اصبر، يا ولد، أنت ما زالت على أعتاب عمرك، وغداً، وبعد غد، سوف تشرق شمس جديدة، ألست تناضل الآن من أجل ذلك المستقبل؟ سوف تفخر بأنك أنت الذى صنعته بأظافرك، منذ اسه الأول... إلى الآخر".

كل يوم كان يبرهن له أنه غدا سيصل.... حصل على جائزة صحفية فى مجال حقوق الإنسان ... ومع تلقيه للفرحة .... تلقفته المصيبة .... إذ تم فصله تعسفيا هو ومجموعة الشباب الصحفيين ... على إثر دمج الأهرام بمؤسسة دار التعاون.

وقتها أدرك محمد أن عليه أن يخرج عن صمته وحواره الداخلى ... اعتصم هو وزملاؤه فى مقر الجريدة مطالبين بحقوقهم... لكن وكالعادة ... ظل يصرخ هو وزملاؤه لكن أحدا لم يسمع.... حتى جلسوا فى مقر الجريدة معتصمين صامتين... إذ أحيانا يكون عليك الصمت كى يسمعك الآخرون .... لكن الصمت لم يسمع وكذا الصراخ لم يسمع....

تسربت إلى قلب محمد غنايم طه.... أزمة قلبية نافذة .... أودت بحياته .... كانت أزمة قلبية من نوع فريد..... أن يقتلك المجتمع بأسره دونما قطرة دم واحدة ... قتل بدم بارد... ظل محمد طوال حياته يصير فى جنازته رغم أنفه ... لكنه لم يكن أبدا محنيا... إذ كان ينظر للأمام يبحث عن أمل.... حتى انحنت جبهته على أرض المعركة بالموت فقط ... وأبى إلا أن يموت داخل مؤسسة صحفية وبغير صراخ ... جثة هامدة.... صورتها ستظل تلعن أولئك الذين حولوا مراسم التتويج إلى جنازة... أولئك الذين حولوا حلمه إلى كابوسه....

رحل محمد غنايم طه ليلحق بركب أولئك الذين بحثوا لأنفسهم عن مكان فى وطنهم فلم يجدوا من دونه موئلا.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة