مصر الرسمية مرتبكة.. ومصر الشعبية مجروحة فى كرامتها ولاعبو الكرة أصبحوا منظرين سياسيين!
ثم ماذا بعد؟ ماذا بعد واقعة 18 نوفمبر فى أم درمان السودانية.. هل تظل إلى الأبد تلك الحملة الإعلامية المتبادلة بين صحف الحكومة المصرية وقنواتها الإعلامية والفضائيات الخاصة من جانب والصحف الجزائرية من جانب آخر؟
لو أنك تتابع الصحف الجزائرية لقرأت مثلا سبابا للمصريين.. كل المصريين "أحفاد وأبناء سامية جمال وتحية كاريوكا وفيفى عبده" حسب تعبير جريدة الشروق فى مقال يقارن بين الجزائريين "أحفاد جميلة بوحريد" والمصريين! إلى هذا المستوى وصلت حقارة الحملة الإعلامية.
وفى مصر أيضا بلغ الانحدار مستوى غير مسبوق.. إعلامى يتصل ببرنامج "البيت بيتك" على الهواء مباشرة ويقول "بصراحة.. إحنا منعرفش الجزائريين غير من حريمهم"، (ولا داعى لمزيد من التوضيح)، فيضحك تامر أمين وخيرى رمضان مقدما البرنامج، ولا يقول أحدهما "عفوا.. كده عيب".
نعم ما حدث فى شوارع أم درمان والعاصمة السودانية الخرطوم عقب المباراة- حسب شهادة الشهود– مهين وجارح لكرامة الجمهور الذى ذهب لتشجيع المنتخب الوطنى ولكافة المصريين، ويستحق وقفة وإجراءات عملية لإزالة آثاره ومنع تكراره، لكنه لا يقتضى أبدا تعميق مشاعر الكراهية وإصدار أحكام عامة وتأليب رغبات وغرائز الثأر والانتقام.. ففى ظل هذا الكم الهائل من الشحن الإعلامى يصعب أن يندمل جرح الإهانة ، وتحتاج إعادة العلاقات الودية بين الشعبين– وليس فقط جمهور الكرة متواضع الوعى قليل المعرفة بالتاريخ– إلى فترات أطول.
خذ مثلا.. على شاشة التليفزيون طالب أحدهم بتغيير اسم ميدان الجزائر فى المعادى، وفى اليوم التالى دار هذا الحوار فى ميكروباص:
السائق– اسمه خلاص اتغير بقى ميدان الجزيرة.
شاب من الركاب- لأ.. اسم الجزيرة ما ينفعش.. القناة القطرية دى تبع إسرائيل.. انت متعرفش إن إسرائيل ليها 13 قاعدة عسكرية فى قطر!
(ولك أن تتأمل ضحالة معلومات المشجع الكروى الشاب– قطر بها قواعد عسكرية أمريكية ومقر القيادة المركزية الوسطى وقد انتقل إليها من السعودية بعد حرب الخليج الثانية فى 1991) كنا قد وصلنا إلى ميدان الجزائر بالفعل، وأشار السائق إلى لافتة مكتوب عليها "ميدان الجزيرة" ورقة بيضاء مطبوعة على الكمبيوتر ألصقها مشجع كروى فى الغالب على أحد الجدران فى الميدان!
هى برامج إعلامية فاشلة، القائمون عليها ضعيفو الأداء محدودو المهنية، وبينهم شتامون بالدرجة الأولى يفتقدون للحس السياسى فيلجأون للإثارة وركوب الموجة، بغض النظر عن النتائج على المدى القريب أو البعيد، المهم أن ترضى القيادة السياسية التى وجدت نفسها عاجزة وظهر ارتباكها واضحا، لأنها لم تستعد جيدا لموقف متوقع.. فالعنف لدى جماهير الكرة الجزائرية ظاهرة معروفة منذ زمن طويل، حتى فى مباريات محلية وودية فى الجزائر نفسها.
الأسوأ أن يجلس لاعبو الكرة وإعلاميو البرامج الرياضية فى كراسى منظرى السياسة، فيعلنون وفاة القومية العربية وانتهاء زمن العروبة، والأنكى أن يشاركهم منظرون سياسيون تابعون للحزب الحاكم فى ذلك "الإعلان الغبى"، ويرفعون دعوة بأن "تلتفت مصر إلى الداخل وإلى مصالحها"، أن تتوقف عن الانتماء العربى "لأن العرب يكرهون مصر" ثم يقول مفكر حكومى بارز – رئيس لجنة العلاقات الخارجية فى مجلس الشعب د. مصطفى الفقى– "العرب لا يحبون ولا يكرهون.. وإنما يهابون.. ويجب أن يهاب العرب مصر هم الذين دفعونا لهذا".
أحاديث أقرب إلى المساخر السياسية، وكأن أقدام لاعبى كرة القدم أصبحت هى التى تفكر! وكأن مصر مازالت بعد لم تفارق ستينات عبد الناصر عندما أرسل الجيش المصرى إلى اليمن ليدعم ثورته، أو بعث مدرسين إلى الجزائر لتعريب مدارسها، وإزالة إرث الاستعمار الثقافى وتدشين هوية عربية فى الأجيال الجديدة.
هؤلاء الذين يتحدثون عن ضرورة "تطليق" العروبة لا يدركون معنى أن تصبح علاقات مصر بالجزائر سيئة، وبالسودان مهددة بالتوتر، وبسوريا متدنية وبلبنان مرتبكة وبقطر عصبية وبحماس واهية.. لا يعرفون أن دور مصر الدولى يعتمد على مدى تأثيرها فى محيطها العربى، وأن قوة مصر مرهونة بحضورها فى العالم العربي، وأن فكرة عبد الناصر "القومية العربية"– وبغض النظر عن أى تحفظات على أسلوب أدائها بعد كل هذه السنوات– كانت بالأساس مشروعا استراتيجيا لتأمين مصر، وتدشين حدود دفاعية– سياسية وثقافية وعسكرية أيضا- فى مواجهة الاستعمار أولا ثم الهيمنة الخارجية ثانيا.. وأن ما ترسخ فى أذهان صناع السياسة الخارجية المصرية على مدى أجيال من تلك المرحلة "العروبية" أن تلك الفكرة هى رؤية صحيحة عمليا بغض النظر عن الأيديولوجيات، وأنها تصب فى خانة المصلحة المصرية الخالصة، وتصب أيضا فى مصلحة الدول العربية.
هؤلاء لا يعرفون أن روح انتصار أكتوبر التى طالب أغبياء محدودو الفكر أن نتحلى بها فى معركة كرة القدم مع الجزائر كانت وليدة حالة غير مسبوقة من التضامن العربى والتنسيق العربى المشترك، ليس فقط على المستوى السياسى بل والعسكرى والاقتصادي.. وكانت الجزائر تحديدا فى مقدمة الدول العربية الداعمة لحرب أكتوبر إلى جانب العراق والسعودية واليمن والكويت والإمارات....
السؤال عن ماذا بعد؟ يقتضى أيضا السؤال عن ماذا قبل.. عن أسئلة بديهية.. لماذا لم يلتق الرئيسان المصرى والجزائرى قبل مباراة القاهرة فى 14 نوفمبر ليصدرا بيانا مشتركا أو يعقدا مؤتمرا صحفيا يقولان فيه كلاما بسيطا للغاية.. هى مباراة لكرة القدم سيخرج أى من الفريقين فائزا.. وأى منهما سيمثل عرب أفريقيا فى المونديال العالمى.. لماذا لم يتصل مبارك وبوتفليقة هاتفيا على الأقل قبل المبارة الأولى أو حتى قبل المبارة الثانية لكى تهدأ الجماهير الكروية بدلا من شحنها إلى أقصى مدى وكأن المسألة حياة أو موت.. حياة من وموت من؟ لماذا لم يوقفا التحريض الإعلامى فى مصر والجزائر قبل أن تحدث واقعة الخرطوم- أم درمان.. والتى كانت مرشحة لسيل من الدماء لو فازت مصر!!! أم أنهما تحادثا هاتفيا ولم يتفقا على شىء كما يتردد فى الكواليس السياسية؟
فى اليوم التالى لمباراة القاهرة قال لى صحفى جزائرى شاب "لو فازت مصر فى المبارة الفاصلة أو لم تفز ستحدث مجزرة للجمهور المصرى فى السودان فالجزائريون– يقصد الجمهور- ذاهبون للانتقام"!، وقبيل المباراة أيضا قال شهود عيان من صحفيين ومسئولين مصريين فى السودان إن الجمهور الجزائرى اشترى أسلحة بيضاء بكميات كبيرة.. فأين كان المسئولون عن أمن الجمهور المصرى المسافر إذن؟ أين كان من يتشدقون الآن بأن أمن المواطن المصرى فى الخارج مسئولية الدولة؟ هل كانوا فى غيبوبة، أم أن البيروقراطية تعطل اتخاذ قرارات مهمة أو تفوت عليها الوقت حتى يصل الأمر للرئيس شخصيا، أين كانت أجهزتنا الأمنية العظيمة.. أين اهتمامها ومتابعتها خاصة أن ابنى الرئيس شخصيا كانا بصحبة الجمهور.. وماذا لو كان موكبهما قد تعرض– لا سمح الله– لأذى، أو حوصرا فى فندق أو منزل كما حدث للمطرب محمد فؤاد وعدد كبير من الجماهير الكروية؟
من يتحدث الآن عن أمن المواطن المصرى فى الخارج ينبغى أن يعترف بأنه مقصر من البداية، وأن كارثة أسوأ كان يمكن أن تحدث!!
لا أعرف لماذا تذكرنى مشاهد البلطجة فى العاصمة السودانية يوم 18 نوفمبر– حسبما يرويها شهودها- بمشاهد حدثت فى مصر فى الانتخابات البرلمانية 2005.. بلطجية ومسجلون خطر يحملون السنج والمطاوى والسيوف ليمنعوا الناخبين من الإدلاء بأصواتهم!
نظام فى القاهرة يشجع ويحرض ويدفع بلطجية لإفساد الانتخابات، ونظيره فى الجزائر يشجع ويحرض ويدفع بلطجية لإفساد مباراة فى كرة القدم والانتقام لقذف سيارة لاعبيه بالطوب أو لقتلى مزعومين بين مشجعيه فى المباراة الأولى فى مصر!
هل من أوجه تشابه أخرى.. نعم هناك.. ما السبب فى هذا الدعم الهائل والحشد المعنوى غير المسبوق من أجل انتصار فى مباراة لكرة القدم يفترض دائما أنها قد لا تأتى بالنتيجة المرجوة.. فأكبر الفرق وأحرفها تتعرض لخسائر غير متوقعة حين لا يحالفها الحظ أو التوفيق! لماذا الرهان على رمية كرة أو رمية زهر! هل انعدمت إنجازات النظامين السياسيين إلى هذا الحد! (لك أن تراجع أرقام من يعيشون تحت خط الفقر فى مصر والجزائر.. النسب مخيفة.. عشرات الملايين على الجانبين)، أم أن النظامين فى القاهرة والجزائر اعتادا تلهية الجماهير بانتصارات "مصطنعة" تخفف عبء حياتهم اليومية البائسة.. تسكت أوجاع البسطاء بالأوهام وتؤهلهم للالتفاف حول قيادات سياسية فاسدة قادمة أو مستقرة على كراسيها منذ زمن بعيد!
المشهد مؤسف بجدارة.. الفنانون المصريون يقاطعون الجزائريين، وهيئات التدريس فى الجامعات والأزهر تقاطع نظيراتها فى الجزائر، والرياضيون أول المقاطعين.. وأصحاب الأعمال التجارية يخشون على رؤوس أموالهم واستثماراتهم.. فماذا سيفعل السياسيون! يسحبون السفراء ويواصلون الضغط الشعبى والدبلوماسى، ويحاول كل جانب استمالة العرب الآخرين إلى صفه!
ثم ماذا بعد؟ متى يتحكم العقل؟ متى يتوسط أحد "العقلاء العرب" لكى يجمع بين مبارك وبوتفليقة فى مصر أو الجزائر أو ليبيا أو السودان لكى "ينهوا أزمتهما وأزمتنا معهم"، لا أتوقع ولا أتمنى بالطبع أن تتوسط إسرائيل كما تندر أحد الساخرين.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة