منذ عام 1996 واستناداً إلى "إعلان مبادئ بشأن التسامح" ذلك الإعلان الذى اعتمده المؤتمر العام لليونسكو فى دورته الثامنة والعشرين، باريس، 16 تشرين الثانى/نوفمبر 1995 والأمم المتحدة تحتفل باليوم العالمى للتسامح، ومصطلح "التسامح" هنا يحتاج إلى تحديد وضبط، فلقد كان فولتير يقول دائماً: "قبل أن تتحدث معى حدد مصطلحاتك" وهذه المقولة الهامة يجب استحضارها هنا ونحن فى إطار تعريف التسامح حيث تتداخل التعريفات وتتعدد كثيراً وعليه يتحتم التحديد الدقيق للاصطلاح لأنه عن طريق هذا التحديد يمكن لنا أن نحصر المعلومات التى علينا حصرها.
لفظة "تسامح" Tolerance مشتقة من الكلمة اللاتينية Tolere أى يعانى أو يقاسى، ومن اللفظة اللاتينية Tolerantia وتعنى لغوياًّ "التساهل"، والتسامح يعنى استعداد المرء لأن يترك للآخر حرية التعبير عن رأيه حتى ولو كان رأيه خطأ أو مغايراً لرأيه.
وفى اللغة الانجليزية هناك مقابلان للكلمة، الأول Tolerance والثانى Toleration، وهذا أدى إلى تعدد الاجتهادات فى إبراز الفروق بينهما، ففى معجم "وبستر" تعنى كلمة Toleration سياسة التسامح المتبعة مع كل الآراء الدينية وأشكال العبادة المناقضة أو المختلفة مع المعتقد السائد، بينما تعنى لفظة Tolerance استعداد المرء لتحمل معتقدات وممارسات وعادات تختلف عما يعتقد به.
إذاً التسامح "Tolerance"الذى نتحدث عنه هنا ليس هو الغفران "Forgiveness" وليس هو العفو عن الإساءة، وليس هو منح الإذن أو رفع الحظر، فعندما نبحث فى اللغة نجد فى لسان العرب لابن منظور أن السَمح من العيدان هو ما لا عقدة فيه، وتسميح الرمح تثقيفه، أى إزالة مابه من من نتوء وتليين مابه من من تصلب وتقويم ما قد يكون من اعوجاجه مما يمنع انسياب الحركة فيه، من هنا نستطيع أن نقول إن المسامحة هى المساهلة أو الملاينة، فإذا تساهل القوم ولم يتشددوا فقد تسامحوا|، وإذا تلاينت الآراء ولم تتصلب فقد تسامح أصحابها، إذاً فإن المعنى اللغوى الأصيل لكلمة تسامح يرتبط بتثقيف النفس، أى بإزالة ما بها من عقد ومن إعوجاج ومن تصلب، التسامح هو أن يجود الإنسان بما عنده، وأن يقبل فى نفس الوقت ما يجود به الآخرون.
ويمكننا هنا أن نسوق بعض الإجابات التى تلقتها منظمة "اليونسكو" عن سؤالها الذى طرحته عام 1995: ما التسامح؟
• التسامح هو احترام حقوق الآخرين وحرياتهم.
• التسامح هو اعتراف وقبول للاختلافات الفردية، وتعلم كيفية الإصغاء إلى الآخرين والتواصل معهم.
• التسامح هو تقدير التنوع والاختلاف الثقافى، وهو انفتاح على أفكار الآخرين وفلسفاتهم، بدافع الرغبة فى التعلم والاطلاع على ما عندهم.
• التسامح هو الاعتراف بأنه ليس هناك فرد أو ثقافة أو وطن أو ديانة تحتكر المعرفة والحقيقة.
• التسامح هو موقف إيجابى تجاه الآخرين دون استعلاء أو تكبر.
التسامح إذاً هو احترام وإقرار وتقدير التنوع الغنى لثقافات عالمنا، ولأشكال تعبيرنا وطرق ممارستنا لآدميتنا، والتسامح ليس واجباً أخلاقياًّ ولكنه أيضاً مطلب سياسى وقانونى، ويتعزز التسامح من خلال التواصل وحرية الفكر وحرية العقيدة والديانة، إن التسامح هو الانسجام فى الاختلاف، والتسامح ليس تنازلاً أو تعطفاً أو تساهلاً ولكنه قبل كل شىء هو الإقرار بحقوق الإنسان العالمية والحريات الأساسية للآخرين، ويجب أن يمارس التسامح من قبل الأفراد والمجموعات والدول.
ولا تعنى ممارسة التسامح القبول بالظلم الاجتماعى أو نبذ أو إضعاف معتقدات المرء، بل يعنى أن الشخص حر فى تمسكه بمعتقداته وفى نفس الوقت يقبل تمسك الآخرين بمعتقداتهم، إنه يعنى إقرار حقيقة أن البشر فى تباينهم الطبيعى من حيث المظهر والحالة واللغة والسلوك والقيم لهم الحق فى العيش فى سلام وأن يكونوا كما هم ويعنى أيضاً أن آراء المرء لايجب أن تُفرض على الآخرين.
واضح من كل هذه التعريفات أن التسامح يعنى أن هناك تعدداً وتنوعاً فى المجتمع أياً كانت طبيعته، وأن التسامح يعنى قبول الاختلاف، وأن التسامح نقيضه هو التعصب والذى ينفى الاختلاف ويسعى للبحث عن التماثل وإنكار أى شكل من أشكال التنوع والاستقلال، فالتعصب هو اتجاه نفسى لدى الفرد يجعله يدرك فرداً معيناً أو جماعة معينة أو موضوعاً معينا إدراكاً سلبياً كارهاً، ولذلك فإن المتعصب يتخذ موقفاً متشدداً فى الرأى تجاه فكرة يعتبرها الحقيقة المطلقة الوحيدة، وكل ما عداها خطأ فادحاً، والتعصب أولاً وقبل كل شىء يعتبر نزعة ذاتية أنانية "نرجسية" كامنة فى كل كائن بشرى، ولكنها تطفو إلى السطح وتبرز إلى الواقع حين يتهيأ الجو الملائم لها، حين تواجه الذات "الأنا" بالآخر وتتصور أنه تتوقف على هذا الصراع مسألة الوجود من عدمه، إن التعصب هو تقديس للأنا والغاء للآخر، فكل ما تقوله "الأنا" يدخل فى حكم الصحيح المطلق، وكل ما يقوله الآخر يدخل فى حكم الخطأ، ويقود هذا إلى موت لغة التواصل والحوار بين البشر، وحين يموت منطق الحوار تنطق الحراب والبنادق وتحفر الخنادق وتستباح الدماء، إن التعصب انغلاق وانكفاء نحو الداخل وارتداد على الذات وتقوقع فى زاوية ضيقة، ورؤية قاصرة للكون.
ومنذ عام 1996 والأمم المتحدة، استناداً إلى إعلان اليونسكو 1995، تحتفل باليوم العالمى للتسامح، الذى يعنى فيما يعنيه أن المجتمع البشرى بحاجة إلى نشر وتأصيل قيم التسامح كمنظور إنسانى وأخلاقى، لا يمكن تقدّم المجتمع الدولى والإنسانى من دونه، إذ لا يمكنه الخروج من غلواء التطرف والتعصب واللاتسامح، إلاّ بتعميم فكرة قبول الآخر، حتى وإن تناقض مع رأى «الجماعة»! وحسب إعلان اليونسكو فالتسامح يعنى: الاحترام والقبول والتقدير للتنوّع الثرى لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية لدينا، وهو يتعزز بالمعرفة والانفتاح والاتصال مع الآخر وحرية الفكر والضمير والمعتقد.
إن التسامح لم يعد واجباً أخلاقياً فحسب، بل هو فريضة سياسية وقانونية فى الوقت نفسه، وقد أصبح حاجة ماسّة وليس ترفاً فكريا، والتسامح يعنى اتخاذ موقف إيجابى فيه إقرار بحق الآخر فى التمتع بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وبهذا المعنى فهو مسئولية قيمية وواقعية للإقرار بالحقوق والتعددية والديمقراطية وحكم القانون، وهو أمر ينطوى على نبذ الاستبدادية، خصوصاً بالإقرار بحق الإنسان فى التمسك بمعتقداته، وهو إقرار ناجم عن أن البشر المختلفين فى طباعهم ومظاهرهم وأوضاعهم وسلوكهم وقيمهم وقومياتهم ودياناتهم ولغاتهم وأصولهم، لهم الحق والمساواة فى العيش بسلام، ولعل الخطوة الأولى لتعميم مبدأ التسامح حسب إعلان اليونسكو هى «تعليم الناس الحقوق والحريات التى يتشاركون فيها»، وذلك كى تحترم هذه الحقوق والحريات، فضلاً عن تعزيز عزمهم على حماية حقوق وحريات الآخرين.
وإذا ما استعرضنا بعض العوامل المانعة لنشر قيم التسامح، فعلى الصعيد الفكرى قد يوجد حجب وتحريم حق التفكير والاعتقاد والتعبير لدى الآخر، بفرض قيود وضوابط تمنع أو تحول دون ممارسة هذه الحقوق، وأحياناً تنزل أحكاماً وعقوبات بالذين يتجرأون على التفكير خارج ما هو سائد أو مألوف سواء عبر قوانين مقيّدة أو ممارسات قمعية تحت مبررات شتى.
وعلى الصعيد الدينى فإن عدم التسامح يعنى التمييز بحجة الأفضلية ومنع الاجتهاد وتحريم وتكفير أى رأى حر، خصوصاً ضد ما هو سائد، وأحياناً تزداد اللوحة قتامة فى ظل الدين الواحد عبر التعصب الطائفى أو المذهبى فى محاولة لإلغاء الفرق والمذاهب والاجتهادات الأخرى، بل فرض الهيمنة عليها بالقوة.
واجتماعياً فإن عدم التسامح يعنى فرض نمط حياة معينة بغض النظر عن التطورات العاصفة التى شهدها العالم، لأنماط متنوعة، مختلفة، متداخلة، متفاعلة، وأحياناً يتم التشبث بسلوك وممارسات عفا عليها الزمن وأصبحت من تراث الماضى.
التسامح واللا تسامح ليس لصيقاً بتراث أو مجتمع، إنه يمتد عبر العصور فلا هو غربى ولا هو شرقى، ورغم أن الأديان جميعها تعلن تمسكها بالتسامح، فإن الحروب والإبادات استمرت عبر التاريخ وتمت فى الكثير من الأحيان باسمها وتحت لوائها.
يمكن القول إن كل المجتمعات البشرية تحمل قدراً من اللاتسامح سلبياً أو إيجابياً، لكن الفرق بين مجتمع وآخر هو فى مدى اعتبار التسامح قيمة أخلاقية وقانونية ينبغى إقرارها والالتزام بها حتى وإن كان البعض لا يحبّها، واعتبر غاندى التسامح هو القاعدة الذهبية فى التعامل مع الآخر، لأننا لا نفكر جميعاً بنفس الطريقة ولا ندرك إلاّ جزءاً من الحقيقة ومن زوايا مختلفة.
أما الفرق الثانى بين المجتمعات المفتوحة التى توافق على التسامح وبين المجتمعات المغلقة التى ما تزال تتمسك باللاتسامح وبتهميش أو إلغاء الآخر، فإن بعض المجتمعات تستطيع إدارة التنوّع والتعددية الثقافية والدينية واللغوية والاجتماعية وغيرها، فى حين تخفق أو تعجز فيها مجتمعات أخرى، ويوجد فى العالم اليوم تعدديات وتنوعات دينية وثقافية واجتماعية.....إلخ، الأمر الذى يستوجب أن تكون الدولة هى الحاضن الأكبر للتسامح، وهو يتطلب إعادة صياغة العلاقة بين الأنا والآخر على أساس المواطنة والمساواة الكاملة، ومن خلال التربية والاستفادة من المخزون القيمى للأديان وللفطرة الإنسانية، وهو ما ينبغى أن ينعكس على الصعيد الدولى أيضاً.
إن ما يحتاج العالم العربى أن يدركه بقوة فى هذه الأيام، إن الآخر هو جزء من حياتى، جزء من عالمى الخاص، وهو فى رقبتى على طول المدى، فلا يمكن أن أعيش بدون الآخر ولا أستطيع حتى أن أمارس العبادة بدون الآخر بل لا أستطيع الوصول إلى الله بدون الآخر أياًّ كان لونه أو دينه أو جنسه أو جنسيته أو عرقه أو معتقده.
ألم يحن الوقت لعالمنا العربى لأن يدرك أن المجتمعات الإنسانية تزدهر بقدر حرصها على مبدأ التنوع والتعدد وقبول الخلاف والاختلاف، وأن أحوالها تتدهور عندما تقاوم هذه الشروط الأساسية وتقلل من شأن التنوع والتعدد وقبول الاختلاف؟!!
إن الآخر هو جزء من التنوع الذى يتمتع به كل مجتمع، وهذا التنوع هو الذى صاحب الإنسانية منذ أن وعى الإنسان حقيقة أن تعميره للكون لا يمكن أن يتم إلا بمشاركة عامة مع كل إنسان خلق على شكيلته ووُجد وعاش معه تحت السماء الواحدة وعلى الأرض الواحدة، وإذا كانت الإنسانية قد صاحبت التنوع دائماً فإنها صاحبت هذا التنوع من خلال وجود الآخر المختلف فى اللون والعرق والنوع والدين والعقيدة فكان تعايشها مع الآخر هو التعايش مع التنوع الذى أثرى ماضيها ويثرى حاضرها ولا شك أنه سيثرى مستقبلها.
وختاماً... إذا كنا نقر بأن الحياة هى صراع، والصراع هو من أجل البقاء، والبقاء للأقوى، فهذا لا يعنى بالضرورة أن هذا الصراع يستوجب إلغاء الآخر وإعلان سيادة "الأنا" عملاً بمبدأ "من ليس معى فهو ضدى"، بل ينبغى أن يكون الصراع من أجل إبراز الخير للإنسانية، والبقاء سيكون للذى يناضل من أجل سيادة قيم الحرية والمساواة والإخاء والخير والسعادة لصالح البشرية جمعاء دون تمييز لدين أو للون أو لعرق أو لقومية.
إن الحضارة الإنسانية ازدهرت وازدهت بالتنوع، والأحادية لم تصنع إلا أفولاً وذبولاً، لذا فكم نحتاج لأن نختلف ونأتلف ولنتيقن أن اللحن الواحد لا يعطى نغماً جميلاً، والعصفور الواحد لا يمكن أن يصنع ربيعًا، والزهرة الواحدة لا يمكن أن تصنع بستاناً!!.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة