على ضفاف نهر الدانوب المتيم بالخضرة والجمال، المتدفق فى شغف عبر أرض النمسا الجميلة، الراقصة أبدا على أنغام موتسارت وهايدن وشوبرت، المعانقة لعبقرية العمارة الفاتنة بطرزها المتعددة.. القوطى والباروك والروكوكو، اجتمعت على مدى سبعة أيام وفود أكثر من مائة دولة يمثلها نحو ثلاثمائة من كتاب العالم، بين روائى وشاعر ومترجم وكاتب قصة قصيرة وناقد ومسرحى.. جاءوا من معظم أقطار المعمورة ليشهدوا فعاليات المؤتمر السنوى العام لنادى القلم الدولى فى دورته الخامسة والسبعين والذى يعقد فى مدينة لينز، ثالث أهم المدن النمساوية بعد فيينا وسالزبرج، وكلهم من أعضاء النادى الدولى الذى دعا لعقد مؤتمره فى لينز اتساقا مع اختيارها من قبل الاتحاد الأوروبى عاصمة للثقافة الأوروبية لعام 2009، حيث نظمت فيها عشرات المؤتمرات والأمسيات الشعرية والليالى الموسيقية واللقاءات الثقافية ومعارض الكتب والفن التشكيلى.
وليس من بأس أن أشير إلى أن مدينة لينز كانت محط إعجاب الديكتاتور أدولف هتلر مشعل حرائق الحرب العالمية الثانية والقاتل الأكبر فيها، وكان يعتبرها مدينته الأولى وأقام فيها معسكرا متسعا لتعذيب وقتل معارضيه (قامت الوفود بزيارة إلى معسكر موت هاوس.. ولست أدرى هل مصادفة أن تكون القرية التى يقع فيها المعسكر وسمى باسمها (بيت الموت)؟
على أية حال فقد تحولت لينز خلال أقل من عشرين سنة إلى مدينة صناعية وتجارية كبيرة دون أن تتخلى عن كل ما يجذب السائح ومن يبحث عن الفن والجمال بكل تجلياتهما، ويحرص القائمون عليها منذ عقود على دفعها للحاق بركب التحديث فى كل المجالات.
شاركت من البلاد العربية وفود الجزائر ومثلها الروائى محمد مجانى عضو مجلس إدارة النادى الدولى، والمغرب ومثلها الكاتب والشاعر عبد المجيد بن جلون والأديب يوسف العلامى، أما مصر فقد مثلها الكاتبة إقبال بركة ود.منى ميخائيل وكاتب هذه السطور، وما يدعو للأسف غياب وفود عربية أخرى مثل الأردن والعراق وفلسطين وتونس ولبنان والسودان.
اختير للمؤتمر شعار "كلمات.. كلمات.. كلمات.. لا شىء غير الكلمات، وهو فى الأصل عبارة لشيكسبير وردت فى مسرحيته الشهيرة "هاملت"، ومن الطريف أن يذهب أحد المتحدثين مداعبا إلى أن هذه العبارة الناطقة بالإنجليزية "وردز. وردز. وردز. ناثنج بت وردز" لم يقلها شيكسبير بل قالها وردزورث، (مشيرا إلى تشابه حروف الكلمات مع اسم الشاعر الإنجليزى الشهير).
رأى اتحاد القلم الدولى أن يكون شعار هذا العام إضافة تكميلية لشعار المؤتمر الذى عقد فى لندن منذ شهور وحمل عبارة "أطلقوا الكلمة".. والمقصود بالطبع جعلها تدوى فى كل مكان وتشق طريقها إلى كل صعيد لتواجه القبح والديكتاتورية والعسف والانغلاق، وتمكينها من إقامة صروح الحق والخير والجمال والحرية والسلام. وهو شعار فى كل حالاته وتوجهاته يثمن غاليا أهمية ما يبدعه القلم من كشف وإلهام وتنوير وتشكيل ورؤية واستشراف، ولا تزال كل هذه المهام هى من مسئولية القلم على مدى قرون وقرون.
كثيرة كانت تلك القضايا التى يتعين مناقشتها على موائد البحث التى تلتف حولها تلك الرؤوس والأقلام، ونذكر منها:
أولا ـ اختيار رئيس للقلم الدولى خلفا للرئيس الحالى الذى تنتهى مدته هذا العام.
ثانيا ـ اختيار رؤساء اللجان وهى كثيرة، منها لجنة المرأة ولجنة السلام ولجنة الكتاب فى المنفى ولجنة للكتاب السجناء..إلخ.
ثالثا ـ دراسة مواقف الفروع الخاملة، والنظر فى مقترحات تستهدف فتح فروع جديدة.
رابعا ـ النظر فى حالات سجناء الرأى والذين تغتالهم السلطات من الكتاب.
خامسا ـ بحث أحوال ومشاكل الكتاب المقيمين فى المنفى.
سادسا ـ مناقشة الميزانية السنوية وبحث الوضع المالى.
سابعا ـ دراسة خطة عمل النادى الدولى خلال السنوات الثلاث القادمة.
ثامنا ـ مناقشة تقرير المرأة.
تاسعا ـ الاستماع إلى مقترحات وفد اليابان الذى سينظم المؤتمر السنوى القادم فى طوكيو.
عاشرا ـ تحديد المؤتمرات الإقليمية (ينظم أحد الفروع مؤتمرا فى منطقته.. مصر مثلا تعد لمؤتمر للوطن العربى أو لأفريقيا).
فى البداية تم عقد الجلسات الإجرائية لانتخاب الرئيس واللجان، ومالت الأغلبية إلى أحد المرشحين للرئاسة وهو الكاتب الكندى متعدد الأنشطة بول راستن صول وهو صاحب خبرة ثقافية كبيرة وتجارب روائية وسياسية جمعتها عدة كتب لفت كثير منها الأنظار، لعل آخرها كتابه "كارثة العولمة" الذى صدر مؤخرا فى ترجمته العربية عن الدار المصرية اللبنانية.
وفى إطار التصدى لقضايا سجناء الرأى والكتاب فى المنفى وهما تقريبا أكثر الملفات سخونة، تقدم العديد من أندية القلم فى دول مختلفة بتقارير عن أحوال الكتاب الذين تم القبض عليهم وأودعوا السجون لسنوات طويلة دون محاكمة أو تحديد الاتهامات، وتقارير عن كتاب تساء معاملتهم على نحو غير إنسانى، وكتاب حوصروا ومنعوا من الكتابة وضيقت عليهم الحكومات والمؤسسات الثقافية والإعلامية فى الرزق حتى اختاروا المنفى الذى- مهما كانت متطلباتهم المالية متوفرة - فإنهم يعانون فيه من فداحة الإحساس بأنهم مبعدون خارج رحم الأوطان التى لم تغادر أرواحهم وقد خلقوا للدفاع عن شعوبها على أرضها.
وقد تليت تقارير تفصيلية عن أحوال السجناء والمعذبين والذين اغتيلوا بالاسم، كما تليت تقارير عن ثقل وطأة الرقابة على الرأى وكبح وسائل التعبير فى الصين وكوبا وإريتريا وتركيا وجورجيا.. كما تليت تقارير عن كيفية معاملة الكتاب فى سجون فيتنام التى يحارب من أجلهم زملاؤهم فى المنفى، وحلق هاجس مخيف على أجواء المؤتمر واعتمل فى القلوب غضب عندما قرأ بعض الكتاب ما وصل النادى الدولى من تقارير عن اغتيال عدد كبير من الكتاب فى روسيا وكولومبيا وإجواتيمالا ونيكارجوا والإكوادور وبيرو وهاييتى وإيران والمكسيك والبرازيل وفنزويلا، وحضر بكل قوة فى أذهان الجميع قول جوبلز مستشار هتلر "كلما سمعت كلمة مثقف تحسست مسدسى".. يبدو أن المثقف فى العالم أصبح مشكلة للحكام ويجب بدل الاستفادة برأيه والانتفاع بفكره التخلص منه فى أسرع وقت ممكن، وتختلف الوسائل من بلد إلى آخر، بدءا من القتل إلى أكثر الوسائل نعومة وهى دعوته إلى الموائد العامرة والحفلات الفاخرة، المهم أن تخف حدة قلمه وحبذا لو فقد النطق.
كانت هناك أيضا تقارير عن أحوال بعض فروع نادى القلم الدولى كشفت عن ضعف بعض هذه الفروع، نذكر منها نادى القلم الأوكرانى والجنوب أفريقى والسودانى واللبنانى. واستمع الحضور إلى تقارير وتعقيبات تشير إلى تراجع شديد فى الأنشطة وافتقاد القدرة على الاندماج فى الحركة الثقافية المحلية أو العالمية، لذلك قرر مجلس إدارة نادى القلم الدولى شطب هذه الفروع، وسرعان ما هبت الوفود العربية الحاضرة للدفاع عن السودان ولبنان حتى تم منحهما مهلة لمدة عام فقط للخروج من حالة الركود والوهن التى دامت لسنوات.
كما كان هناك قرار لشطب الفرع التونسى بسبب التقصير فى الوفاء بالالتزامات المالية، وتصدت على الفور الوفود الثلاثة للذود عن الفرع التونسى حتى أمكن إلغاء القرار، كما سعت الوفود العربية لدعم طلب البحرين الانضمام للنادى الدولى وافتتاح فرع هناك، حيث تحدث جميع الأعضاء العرب تقريبا عن مكانة البحرين الأدبية والرؤية الواعية التى تميز مختلف التوجهات البحرينية والحرص على الاندماج فى المنظومة الدولية بشتى تجلياتها، وقد تحقق الهدف وأصبحت البحرين عضوا بالنادى الدولى.
لقد بدا المركز الثفافى الكبير فى لينز كخلية نحل على مدى اثنتى عشرة ساعة يوميا (9 ص ـ 9 م)، لا يكف أعضاؤها عن الحوار والشد والجذب والاتفاق والاختلاف والاحتقان حول مختلف القضايا الشخصية والعالمية، الأدبية والسياسية، بل كان أحيانا يمضى إلى أعمق من هذا بسبب ما جرى للكرة الأرضية التى تحولت إلى قرية صغيرة، لكن الجو المهيمن على ذلك كله كان مغمورا فى المحبة والود العميق الذى يربط العائلة المتجانسة والمتناغمة على الأقل من الناحية الثقافية.
لقد كان بالإمكان التقاط ما تفيض به العيون من لمحات الفرح والنشوة التى لا تتألق إلا إذا التقت بحبيب، وكان أيضا بالإمكان اكتشاف تلك المروج المزهرة من الشوق التى تمتد عبر كل القلوب والأرواح المشاركة، عابرة فضاءات الغياب واللغة وأحوال المجتمعات المتباينة.. إنهم جميعا أبناء القلم وعشاقه، اجتمعوا كأنهم أحباب منذ عقود، واختفت تماما كل أشجان الغربة وحساسيتها، وكأن فلسفة المؤتمر وأهم أهدافه أن يناقش المجتمعون القضايا المتعلقة بالكتابة من كافة الزوايا، والأهم عقد الروابط بين الكتاب وتوثيق المعرفة وفتح الآفاق للتبادل الثقافى، ليس بين الأفراد فقط ولكن بين الفروع أيضا والدول.
قبل الوداع تمتد الأيدى لتخرج بطاقات التعريف الشخصية ورغم الهاجس المرعب لأنفلونزا الخنازير فقد تعانق الجميع نساء ورجالا فى حميمية لافتة الدفء، تؤكد الوعد ببذل الجهد لدعم ناديهم والانتصار للحرية فى بلادهم وتشجيع المواهب أينما كانت، وتؤكد حتمية التواصل البناء لتذليل كل العقبات أمام متعة الكتابة.
وبينما عيونهم تلتقط بعض النظرات الممتنة لمياه الدانوب التى كانت دائما ملهمة لعظماء الأدب والموسيقى والفنون كانت الأيدى تشد على بعضها بأمل اللقاء فى طوكيو (أكتوبر 2010) من أجل بث المزيد من الحيوية فى القلم ـ الذى ما يزال أقوى من السيف والمال ـ لعله يدفع بالعالم نحو حياة أجمل وأرفع.