نحن المصريون نعانى معضلة تنظيمية حقيقية ففى مصر التنظيمات الكبيرة الوحيدة هى تنظيمات الدولة أو تنظيمات تسيطر عليها الدولة أو تقوم عليها عائلات، لا يستثنى من ذلك إلا تنظيمان كبيران خارج الدولة لا يقومان على حكم العائلة، حتى لو اخترقتهما العلاقات العائلية والمصاهرة، الإخوان المسلمين والكنيسة القبطية الأرثوذكسية.
ففى الوقت الحاضر فشل المصريون فى خلق وإدارة تنظيمات كبيرة وهذا الإخفاق التنظيمى المؤسف ينتقل معنا فى كل المجتمعات المهاجرة، على الرغم من الاختلاف بين النظام السياسى والإدارى فى مجتمع ديمقراطى يقوم على الديمقراطية وحكم الشعب لنفسه وبنفسه، ومجتمعاتنا الشرقية العربية وسيطرة الأحزاب الحاكمة (بانتخابات مزورة) على كل صغيرة وكبيرة فى حياة المواطن المطحون والمعجون بالخوف من أى سلطة مهما كانت كارثيتها.
وإن كانت المصالح المادية والفساد الحكومى يمثلان العامل الرئيسى لهذا الإخفاق فما بال الأحزاب السياسية، الجمعيات المدنية، النوادى، الاتحادات التنظيمية فعلى ما يبدو ليس لها عوائد مادية، بل عوائد معنوية عميقة ومهمة ومؤثرة، ومع ذلك ما استطاعت الفكاك من هذا الفساد والفوضى "العنوان الأوحد للحياة اليومية".
وإن كان للمصريين أن يفخروا بأشياء فى ماضيهم وحضارتهم التى فاقت سيرتها كل حدب وصوب بعلم المصريات، وهو العلم الذى يختص بدراسة تاريخ مصر القديمة ولغتها وآدابها ودياناتها وفنونها، باعتبار أن الحضارة المصرية أقدم حضارة إنسانية على وجه الأرض التى أسست لفكرة الدولة وفكرة الإدارة والتنظيم، فأهم شيء يمكن لهم أن يفخروا به هى قدرتهم التنظيمية الفائقة، فهم مؤسسى أول دولة فى التاريخ البشرى، دولة كان لها أخطاؤها وسطوتها وشموليتها، ولكنها استطاعت بالعمل الجماعى تنفيذ مشروعات عملاقة مثل الأهرامات.
الجدير بالإشارة أولاً أن مفهوم العمل المؤسسى (الجماعى)، وبالرغم من حضوره فى الثقافة المصرية قديما كما ذكرنا وحديثا كما نرى بعض الأمثلة، وخصوصا فى الأقاليم سواء أكان فى المناسبات "السعيدة أو الحزينة" ففكرة العمل الجماعى فيها أساسى، ولكن بشكل خاص [عائلاتى]، إلا أنك تجد هذا المفهوم غائباً نسبياً وبدرجة كبيرة فى الثقافية الاجتماعية العامة، حيث يتربى الإنسان بدءًا من حياة الطفولة ومروراً بجميع مراحل حياته على مفهوم العمل الفردى وعدم المشاركة فى العمل الجماعى العام تجنباً للمشاكل المتعددة الإقصائية لمخالفى الرأى.
إن من ينظر فقط لكم الاختلافات وكم التناحر والتشاجر والمغالاة فى الخصام والتخوين فى كل عمل جماعى عام أو خاص فى كل مراحل إنشائه وتدشينه ليصاب المرء منا باليأس والإحباط من كل هذا الغث والرداءة التى تطاردنا فى كل مشروعاتنا الجماعية، على الرغم من أننا لم نستطع تحقيق النصر والفوز فى أى من المجالات الإ بالعمل الجماعى المنظم (نصر أكتوبر العظيم).
إن غياب ثقافة العمل الجماعى بالمطلق تسببت أيضاً فى غياب العديد من مفرداتها ومفاهيمها ومهاراتها مثل :
مهارات التواصل والحوار- والتفاوض مع الآخرين- وقيادتهم- وتوزيع الأدوار عليهم- وتحديد الأوليات- والإسناد- والتفويض- وإدارة المجموعات- والاجتماعات والقدرة على صياغة الأهداف- والتخطيط والمتابعة.. وأغلب هذه المهارات نفتقدها ولا يتقنها الغالبية العظمى من أفراد مجتمعاتنا.
لهذا السبب فإن الكثير من عمليات التواصل والتفاوض مثلاً التى نشهدها فى كل مناحى الحياة، بهدف الاتفاق على آمر ما، عادة يؤول أمرها للفشل حتى تلك التى تحدث ضمن الأوساط الأسرية.
تعتمد كفاءة العنصر البشرى فى العمل المشترك والجماعى على عدة عوامل مادية وثقافية واجتماعية بعبارة أخرى: فشل المصريين فى العمل الجماعى له العديد من الأسباب التى تتمحور وتتمركز فى التنظيم والإدارة كما درسنا فى علم "إدارة الأعمال" للدكتور"محمد عبد المتعال" المتميز فى علم (الإدارة والإنتاج) الذى كان دائما يحاضرنا بأن علماء الإدارة والتنظيم هم المسؤلون عن هذا التخلف الحضارى لبلادنا العربية، لأن العمل الإدارى (الفاشل) هو محصلة، أو نتيجة، أو إفراز للإدارى المركزى الذى يجمع بين يديه الوحيدتين كل خيوط العمل، ويستأثر بفعالياته، ويحد من ديناميكيته ومرونته، ويجعل من (البيروقراطية) والمركزية سياسة عقيمة لمسيرة العمل، كل العمل، من رتابة وركود لحركته، ويترتب على ذلك أمراضاً نفسية مخبوءة من حب الذات كالأنانية (لنسب النجاح فقط لنفسه)، وفقدانه لروح العمل الجماعى المنتج كالتراخى والنمطية والتواكلية، وافتقاد ميزة (الثقة) بين كل العاملين (الفرقة والشقاق وثقافة أعداء النجاح ودس الأسافين)، وغياب الروح الخلاقة وتحول كل الأعمال والعاملين إلى ماكينات روتينية تخلو من الإبداع والتطوير!
لابد من العمل فى القيادات الإدارية المركزية والفرعية الحكومية والمحليات والمؤسسات المدنية بروح الفريق الواحد الذى تتجمع فيه كل الخيوط، والخطوط، وألوان (الطيف الشمسى) مشكلاً بذلك (قوس قزح) متناغم الألوان، يجذب لا ينفِر، يوحد لا يفرق يدعم على الدوام ثقافة الحوار والعمل المشترك.
إن واقع الحال فى مجتمعاتنا المغتربة والأصلية وبالنظر للمشاكل والنواقص التى تعانى منها يدعونا أكثر إلى نشر ثقافة العمل الجماعى بمفهومه الواسع، بحيث يشمل جميع المناحى [الحكومى والمدنى] فى ميادين الحياة السياسية الاجتماعية الثقافية الصحية والدينية وتلك التى تهتم بالأطفال والشباب والأسرة والمرأة.
فعندما نسمع عن تأسيس أى من المشروعات العملاقة أو الأحزاب السياسية أو التكتلات المدنية نسعد ونأمل منها الكثير، لأنها ظاهرة صحية تدل على وعى هذا المجتمع بحاجاته وتوليه لمصالحه وتطوره وفهمه لأبجديات كيان الدولة.
ولكن أين هى التنظيمات الكبيرة التى نجحت فى إحداث تغييرات فى المجتمع المصرى والأسر المصرية بالنفع الحقيقى والواقعى المؤثر والملموس؟.
هل من مخرج للعشوائية التى يعانى منها المجتمع التى شكلت ثقافة عامة لدى الدولة والمواطن، وليست فقط مجرد تجمعات سكنية؟ فإن جاد عليك الزمن ونجوت ببدنك من عشوائية السكن فلن تنجو بروحك من عشوائية الفكر وأبواقه.
هذا هو السؤال الذى يدور فى أذهاننا عندما تتوارد إلى خواطرنا فكرة أى مشاريع حقيقة واقعية عملاقة، وليست شعارات مناورات مؤتمرات عملاقة! عمل حقيقى واقعى وليس فقط "مكلمات أمام الكاميرات".
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة