أخفى حقيقة مرضه على الكثيرين، وتنقل بدائه الخبيث بين المستشفيات والمعاهد والمعامل؛ عله يجد فيها ما يخفف الألم أو يستأصله، ولما أيقن أنه "مفيش فايدة" أرخى جفنه ونام مطمئنا راضيا، كانت ميتته مثل عيشته، فى هدوء وتواضع واتزان، محتفظا بعلاقته الودود السمحة مع كل المحيطين به، أو حتى الغرباء عنه، أشاهد الآن صورته وهو يبتسم مزهوا بشقاوته وطيبته؛ فاكتشف قدرا كبير من الطفولة والبراءة لم تكن تفاصيل الحياة لتسمح بإظهاره ولا تأمله، أسأل نفسى: هل الموت غياب أم حضور؟ خفاء أم تجلى؟ طمس أم اكتشاف؟ بداية أم نهاية؟ فتطل على صورته الباشة وكأنها تسخر من الأسئلة وسائليها.
كان العزاء أمس الأول، وبالجو لسعة برد تجبر الساعين إلى تأدية "الواجب" على التماس الدفء والاستمتاع بالشعور به، فانقلب الجو بقدرة قادر من النقيض إلى النقيض.
فى مقدمة سرادق العزاء كان أصدقاء الراحل الكبير مصطفين خاشعين، جابر عصفور، عماد أبو غازى، فؤاد قنديل، فريد أبو سعدة، حلمى سالم، سعيد الكفراوي، وفى المدخل قبل الدخول إلى القاعة الرئيسية كان إبراهيم أصلان، إبراهيم داوود، محمد هاشم، خيرى شلبى، محمد ناجى، نعم محمد ناجى الذى تحامل على مرضه العاصف، وضعف جسده ووهنه وذهب بنبل فريد ليؤدى واجب العزاء فى صديق يشاركه حب الأدب والعزوف عن الطنطنة والصراخ.
فى داخل القاعة، كان المكان عامرا، إبراهيم عبد المجيد، وعزت القمحاوى، وطلعت الشايب، وبهاء طاهر، وإبراهيم منصور، وياسر الزيات، وسيد محمود، وهشام أصلان، وغيرهم الكثير، لم يغب عن "الحفل" من الأدباء إلا أعضاء لجنة الشعر وممثلى النقابات واتحاد الكتاب، وفى آخر القاعة كان المكان المخصص لمندوب السيد الرئيس خاليا، تعلن عن وجوده ورقة صفراء باهتة مكتوب عليها بخط النسخ المنمق "مندوب السيد الرئيس" كلمة "مندوب" فى سطر، والسيد الرئيس" فى سطر منفصل، الكراسى الحمراء الفخمة المرصوصة بعناية لا يشاركها أحد فى المكان سوى الفراغ، ولا أعرف هل اتفق الأدباء والكتاب على أن يبتعدوا أكبر قدر ممكن عن هذا الفراغ، أم أنها كانت مصادفة لها من الدلالات ما يفتح الباب أمام الخبثاء من الكتاب للتأويل والتخمين والتقول؟
بلا مبالغة أقدر أن أقول إن مصر ـ ممثلة فى أخلص أبنائها وأنجبهم ـ حضرت العزاء، وغاب وجه السلطة، بجميع أشكالها، وأظن أن من حضر العزاء من القيادات الثقافية الرسمية مثل جابر عصفور وعماد أبو غازى، أتوا بصفتهم الشخصية باعتبارهم أصدقاء الراحل الكريم وزملائه فى الهم والحلم والسخرية، لا بصفتهم الرسمية، شىء ما جمع كل هؤلاء وجعلهم لا يتركون أماكنهم إلا بعد انتهاء العزاء تماما، وكأنهم استعذبوا تلك اللحظة الحانية التى حملت ضفيرة متناقضة وممتزجة من مشاعر الفقد والشجن والونس، وما كان لـ"الفراغ" أن يستمتع بهذه اللحظة لأنه اختار بإرادته أن يبتعد عن وجه مصر المنير.
فى عزاء محمد صالح، كان الرضا المشفوع بالأمل حاضرا، ولم يكن مبدعو مصر بحاجة إلى اصطناع الحزن أو استجلاب الدموع، دمعهم فى القلب راقد، يعلن عن وجوده حنو فريد أبو سعدة، وصمت بهاء طاهر، وحميمية خيرى شلبى وأسى إبراهيم عبد المجيد، اتفق الجميع على المحبة، وغاب الغائبون غير مأسوف عليهم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة