عفوا كابتن لطيف.. الكورة "ثقافة" وليست اجوان

السبت، 28 نوفمبر 2009 02:06 م
عفوا كابتن لطيف.. الكورة "ثقافة" وليست اجوان الناقد الأدبى سيد الوكيل
سيد الوكيل

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كنا فى الأقصر، مشاركين فى مهرجان طيبة الثقافى، وكان علينا أن نشاهد مباراة مصر والجزائر فى الفندق ونحن نعد حقائبنا لركوب الطائرة إلى القاهرة، وكنا نفكر بقلق، كيف سنتمكن من الهبوط فى مطار القاهرة فى نفس توقيت عودة الفريق المصرى وآلاف المصريين من السودان، وطبعا على رأسهم السادة المسئولون وكبار رجال الدولة. كانت مخاوفنا تنحصر فى أننا كحفنة من المثقفين لا تتجاوز الستين فردا، يمكن أن نضيع تماما بين آلاف العائدين من السودان، وكان أمامنا السيناريو الأول هو أننا لو فزنا فإن آلاف الجماهير فى القاهرة سوف تحتشد أمام المطار فى استقبال المنتخب المصرى، وطبعا ستكون ليلتنا سوداء، فكيف نتمكن من مغادرة المطار والعودة إلى بيوتنا، وهل سيهتم بنا المسئولون فى المطار، أم سينشغلون عنا بالمنتخب ومشجعيه؟ وضمن هذا السيناريو تمنَّى البعض لو أن المنتخب يُهزم.

وكان هذا هو السيناريو الثانى، لو هُزم المنتخب، ففى هذه الحالة ستكون فرصتنا أكبر للعودة إلى بيوتنا، وربما سنكون محل اهتمام المسئولين فى المطار على الأقل كمسافرين عاديين، فليس من أحلام أى مثقف أن ينظر لنفسه كمواطن فوق العادة، ومهما كان بعضنا مثقفا كبيرا ومهما أو يظن نفسه كذلك فلا يجرؤ على مجرد التفكير فى نفسه كمواطن مهم، ليس مثلا كجمال مبارك أو أبو تريكة، بل حتى كمطرب درجة ثالثة مثل سعد الصغير.

على الرغم من أن فندق الخمس نجوم الذى كنا فيه، وفر شاشات عرض كبيرة ليستمتع النزلاء بمشاهدة المبارة على "البيسين". إلا أن بعض كبار المثقفين ـ كما يعتقدون فى أنفسهم ـ سخروا من حرص الآخرين على مشاهدة المباراة سواء على "البيسين" أو فى غرف الفندق. فبين المثقفين وكرة القدم ثأر قديم، فالمثقفون مازالوا يذكرون بنوستالجيا عظيمة أيام كان لهم الشأن الأكبر فى الحياة، تتلقف الصحف كلماتهم وتسجل معاركهم وتضع صور طه حسن والعقاد فى صفحاتها الأولى جنبا إلى جنب مع الملك فاروق. لكن دوام الحال من المحال. والأيام دول يا شيخ حسونة. تراجعت مكانة المثقف شيئا فشيئا حتى أطلق الناس نكاتهم على المثقفين بوصفهم كائنات ديناصورية منقرضة. فقيل إن أحد المصريين شاهد رجلا يمشى بجوار فيفى عبده، فسأل من هو الرجل الذى يمشى بجوار فيفى عبده، فقيل له إنه نجيب محفوظ.

الطريف أن أحد المثقفين العرب حكى لى النكتة التى ألفها المصريون، حكاها لى باعتبارها واقعة حقيقية. فضحكت جدا رغم أنى سمعتها عشرات المرات. لكنها هذه المرة تحكى بطعم الدهشة الساذجة، وتؤكد لى أن المثقف العربى هانت عليه نفسه حتى أصبح يصدق ما يطلق عليه من نكات غريبة! لم يقل لى صديقى العربى أين رأى الناس فيفى عبده ونجيب محفوظ يمشيان فى الشارع.. ميدان العتبة أم ميدان رمسيس؟؟ لكن مغزى النكتة أخطر، هو إحساس الناس أن قيمة الرموز تضاءلت فى حياتهم، حتى أصبحت فيفى عبده رمزا أكثر أهمية من نجيب محفوظ . لأنى أؤمن بذكاء الشعوب الباطنى غير المعلن. فهذا يعنى أن الشعوب لم تعد تؤمن بفكرة الرموز، وبما يكون ذلك بعد سقوط أكبر رمز مصرى وعربى هو جمال عبد الناصر . صحيح أن عبد الناصر مازال رمزا لدى المثقفين . وكثيرون من الأخوة العرب يؤمنون به أكثر منا نحن المصريين. لكن هذا التمسك بالرمزية يكشف لى كيف أن هؤلاء أكثر تخلفا وسذاجة من عامة المصريين البسطاء الذين لا نعمل لهم حسابا فيما هم يشكلون الواقع المعيش على هواهم. ويدركون الفارق الكبير بين أن يتحول الإنسان إلى رمز وبين أن يكون واقعا معيشا.

ونجيب محفوظ كان رجلا حقيقيا وبسيطا وشديد الواقعية، لكن المثقفين جعلوه رمزا ليذكى مكانتهم. وفيفى عبده مجرد راقصة موهوبة يحظى الواقع المعيش بآلاف منها. لكن الناس حولتها إلى رمز لتذكى مكانتها. الأمر هكذا يبدو مثل صراع خفى يدور بين قيمة الرمز وقيمة الواقع . وأنا شخصيا أعتقد أن انتصار الواقعى على الرمزى معيار شعبى وبسيط ودقيق لتقدم الشعوب. لهذا أشك فى الشعوب التى مازالت حريصة على إنتاج الرموز. وأنظر بقلق كيف يتحول الصراع الطائفى اللبنانى إلى صراع رمزى، فيتحول رفيق الحريرى إلى رمز للمدنية والمواطنة، ويتحول حسن نصر الله إلى رمز للمقاومة. ليأخذ الصراع الطائفى القديم صورة جديدة يمكن اختصارها فى سؤال، أيهما أهم وأولى، تحرير الإنسان أم تحرير الأرض؟ وهكذا يظل الصراع نفسه قائما، ويظل الناس يرددون: الشيعة والسنة أخوان، ويقتلون بعضهم بعضا، تماما كما يقولون العرب أشقاء، ويهينون بعضهم بعضا!

هنا يأتى دور السياسة فى تصنيع الرموز، وهو تصنيع يتم بأعلى المواصفات، فتجد من يصدقها. لكن السياسيين لايصنعون الرموز فقط بل يصنعون الشعارات أيضا. سواء كانت شعارات مرحلية كتلك التى أطلقها عبد الناصر أثناء الاحتلال الإسرائيلى لسيناء (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة). كوسيلة لتكميم الأفواه وعدم مساءلة النظام الذى قاد شعبه إلى هزيمة مخزية. لكن الشعارات الأبدية هى الأكثر خطورة، لأن التحرر منها يحتاج سنوات طويلة، كما أنها بسيطة ووطنية بحيث لايشك فيها أحد، وهى تلعب على الوتر النفسى والاجتماعى للشعوب. ولذلك فكثير من الشعوب هم صنيعة شعارات يرددونها وهم ضحاياها أيضا . مثلا أن نقول: مصر أم الدنيا أو الجزائر بلد المليون شهيد.

أنا شخصيا فضلت مشاهدة المباراة فى غرفة الفندق مع نفسى وسجائري، ليس لأنى لا أحب المشاهدة الجماعية، وإنما لأنى فكرت بطريقة رومانسية، أن الفرجة على البيسين لا تليق بأهمية الحدث الذى صوره الإعلام المصرى على أنه العبور الثانى لمصر لو فاز المنتخب المصرى، وعلى أنه معركة تحرير جديدة يخوضها بلد المليون شهيد ضد المصريين الخونة. ولأنى واحد من الذين عاشوا العبور الأول ومن الذين عشقوا فى طفولتهم ثورة الشعب الجزائرى وبكى مع الفنانة ماجدة مصدقا أنها جميلة بوحريد. خفق قلبى بجلال ورفض التعامل مع الأمر وكأنى أشاهد فيلما لعادل إمام.

كان قلبى على حق، لأنه كان يستشعر خطرا ما سيحدث إزاء تصعيد الموقف الكروى والمبالغة فى العصبية من جانب الجزائريين الذين يفخرون بأنهم شعب المليون شهيد. والمبالغة فى الشحن الجماهيرى من جانب المصريين الذين اعتبروا شأن الفوز على الجزائر ليس مجرد فوز رياضى، بل انتزاع لجدارة مصر بأنها أم الدنيا.

كنت أفكر لماذا يعيش العرب حتى الآن على الشعارات الجوفاء الساذجة، ولماذا تحرص الحكومات على أن تجعلنا نؤمن بشعارتنا حد العته؟

فما معنى أن يفتخر شعب ما بأنه بلد المليون شهيد؟ ما كل هذا العنف والقتل الغريزى الذى يجعل شعبا يقدم مليونا من خيرة شبابه حتى لو كان يخوض معركة تحريره من الاحتلال الفرنسى . فكل الدول التى كانت مستعمرة وهى تزيد عن 65 فى المائة من بلدان العالم، لم تقدم ربع هذا العدد ونالت حريتها أيضا، بل وصارت أكثر تحضرا وتقدما من الجزائر التى أشك فى أنها نالت حريتها حتى الآن؟

سبحان الله، مصر أيضا تحررت من الاستعمار الإنجليزى، وخاضت بعد ذلك أربع حروب ضد إنجلترا وفرنسا وإسرائيل، ومع ذلك لم تقدم نصف هذا العدد من الشهداء.

مليون شهيد رقم مخيف يجعلنى أشك فى أن قادة الثورة الجزائرية أداروها بحكمة أو ذكاء، وأنه لم تكن لديهم من وسائل التحرير حيلا أخرى غير قتل الجزائريين. ترى ما معيار الحضارة هنا؟ وما موضع الفخر؟! وفى المقابل فكرت، لماذا يتمتع الإعلام المصرى بهذا الغباء ليظل يردد على أذهاننا ليل نهار (مصر أم الدنيا)،مع أن الدنيا فيها: أوروبا وأمريكا والصين بل وإسرائيل، فكيف تكون مصر التى تتخبط فى مشكلاتها منذ عشرات السنين أما لهذ الدول التى فرضت وجودها على العالم بكل الطرق.

ولماذا يصدق الناس هذا الشعار الفارغ من أى معنى ما لم يكونوا سذج ومفرغين من أى بعد معرفى بالآخر؟ شعار مثل هذا جعل المصريين لا يرون غير أنفسهم، وينظرون إلى باقى الدول ـ ولاسيما العرب ـ نظرة شيفونية غير مبررة.

مرة أخرى، ترى ما معيار الحضارة هنا؟ وما معيار الفخر لشعب لايعرف قيمة نفسه فيما يظل متجاهلا لقيمة الآخرين؟ قلت لنفسى، إنها الشعارات يا بو السيد، فنحن العرب أمة تتغذى على الشعارات. وليس فقط على الفول أو الكسكس أو التبولة أو الكبسة أوالمبكبكة.

بعض الأفراد تتحول إلى رموز، وبعض الأفراد يطلقون الشعارات، من هؤلاء الكابتن لطيف المعلق الرياضى رحمه الله. تحول هو نفسه إلى رمز للكرة فى مصر، وأطلق شعار (الكورة جوان) فصدقه الناس. قلت لنفسى، سهل جدا أن تتحرر الشعوب من مستعمريها حتى لو قدمت ملايين الشهداء. ترى.. كم مليونا يلزمنا لنتحرر من شعارات صنعناها بأنفسنا، وسجنا أنفسنا فيها؟!

تنفس المثقفون المشاركون فى مهرجان طيبة الثقافة الصعداء بعد هزيمة المنتخب المصرى. قال لى أحدهم: مع أنى كان نفسى مصر تفوز لكن هذا أفضل. الآن نستطيع أن نعود إلى مطار القاهر براحة تامة، فلن تكون هناك جماهير محتشدة حول المطار.

هكذا انحصر ذهن صديقى المثقف فى مجرد العودة إلى بيته براحة لا ينافسه فيها نجوم المنتخب. هؤلاء الأولاد الصغار الذين أصبحوا أهم من طه حسين والعقاد. فلم تعد فيفى عبده وحدها ولا شعبان عبد الرحيم ولاغيرهما من فنانين ومطربين هم نجوم العصر الحديث وممثلو ثقافته، بل أبو تريكة وعصام الحضرى وغيرهم من الأولاد الصغار الذين أهانوا العقل البشرى ونقلوه من الرأس إلى القدم. ضحكت من كلام صديقى المثقف.

صديقى المثقف إذن، يعيش عزلته، وتراجع أهميته، إزاء نجوم خلقتها ثقافة جديدة تجتاح العالم وتمثل العولمة فى نموذج جماهيرى صنعه الغوغاء هذه المرة وليس النخب الثقافية التى اعتادت صياغة العالم القديم.

صديقى المثقف ببساطة ينعى نفسه، بل وينعى نمط الثقافة القديمة التى عاشت على البلاغة والحكمة والورق . فتلك ثقافة جديدة لامكان له فيها . ثقافة تعيش على شاشات التلفزيون. وسيلتها الصورة، وأدواتها الجسد، تتغذى بالمران والتدريب العضلى وليس بالقراءة والتأمل. فأنت يمكنك أن تقرأ كتابا أو أثنين فى الفلسفة وتصبح حكيما متفلسفا بأى لغو يصدقه البسطاء ومدعو الثقافة، ولكن، لا يمكنك أن تقرأ كتابا فى السباحة وتصبح سباحا من غير أن تنزل البحر.

كثير من مثقفينا لا ينزلون البحر، ويتمسكون بتلابيب نوستالجيا تخاصم الواقع المعيش والتحولات الثقافية الخطيرة التى يصنعها العامة والبسطاء، لهذا يظل المثقف فى عزلة عما يجرى من حوله،ويظل البسطاء نهبا للسياسيين الذين يغرقونهم فى الشعارات الغبية، ويشغولنهم بالمعارك والقضايا المفتعلة.

عندما تصبح الرياضة مجرد تنافس شيفونى يتغذى على الشعارات الغوغائية، لا يتصل بها ولا يصدقها ولا يمارسها ولا يشجعها غير الغوغاء . وعندما لا تكون الرياضة معنى ثقافيا رفيعا، فإنها تصبح بلا قيمة غير قيمة التنافس الساذج المجرد من أى قيمة. وسواء فازت مصر أو الجزائر، فإن غدا لناظره قريب. ستلحق الهزيمة بأى منهما فى المونديال. ووقتها سيدركون أن الكورة ليست جوان كما قال الكابتن لطيف. بل ثقافة.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة