يعرف المصريون كما يعرف الجزائريون مدى قيمة الشهيد والشهادة عندنا نحن العرب، بل إن الموت فى المعركة تحت خفق البنود هو موت يعشقه العربى منذ الجاهلية الأولى، فالعربى يسمى الموت الطبيعى من غير إراقة دم بالموت حتف الأنوف. ونجد فى كتب السيرة رجلا كخالد بن الوليد يحزّ فى نفسه كثيرا أن يموت على فراش المرض، فيقول "ليس فى جسدى شبر إلا ّوفيه طعنة سيف أو ضربة رمح، وها أنا أموت كما يموت البعير الأجرب". فليس أعزّ على أمّة من الأمم من رجل قضى من أجل دينه أو عرضه، وهل الوطن غير دين وعرض.؟
والجزائريون والمصريون يعرف كل منهم معنى الشهادة وقدر الشهداء، ومن ثمّ يفترض أن يكونوا أبعد الناس عن الاستهزاء بقيمة الشهادة والشهداء. لقد عرف الشعب المصرى محطات كثيرة سالت فيها دماء المصريين، فى ثورة 1919 كما فى ثورة 1936 وفى 1948، وفى ثورة يوليو المجيدة. وفى أحيان كثيرة امتزج الدم المصرى بالجزائرى كما فى حروب الكرامة 1967 و1973. وبالمثل عرف الجزائريون هذا النوع من الموت خلال حركات المقاومة منذ أن وطئت أقدام الفرنسيين أرض الجزائر العربية المسلمة حتى ثورة نوفمبر الخالدة. أنّ الشهيد فى ثقافة الأمّة العربية من أقدس مقدّساتها، يستوى فى ذلك أبناء الامّة جميعا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، يستوى فى تقديس الشهيد القومى والإسلامى، المسلم والمسيحى التقى والفاجر. الشهادة ركن ركين وثابت عام.
لقد بلغ عدد شهداء الجزائر فى آخر ثوراتها مليونا ونصف مليون. بل لا أرانى مبالغا إذا قلت إنّ عدد الشهداء يفوق ذلك بكثير. ذلك لأن كثيرا من الذين حصدتهم الآلة الفرنسية لم يكونوا مسجلين لدى الحالة المدنية. ومن ثمّ لم يتمّ إحصاؤهم، ناهيك عن المفقودين. عند دخول المستعمر إلى الجزائر عام 1830 كان عدد سكانها تسعة ملايين نسمة وعند جلاء العدو كان عدد السكان... تسعة ملايين نسمة أيضا. يكاد عقلى ينفجر، كيف استطاعت فرنسا أن توقف نموّ سكان الجزائر؟ تخيّلوا معى يا أهل مصر بما أوتيتم من عبقرية الخيال الدرامى أنّ قرية كانت آمنة مطمئنّة يتسلّل إلى أرضها عدوّ يتربّص بكل مولود، ذكر أو أنثى، فيذبحه ثمّ تخيّلوا معى أن أهل القرية ينجبون ولا يموتون والأعداء يذبّحون ولا يفترون. ما أروعها من رواية تجاوز فيها المجرمون مذابح فرعون، فقد كان يذبّح الأبناء ويستحيى النساء.
إنّ مشاعرنا واحدة فلا يلعبنّ أحد الفريقين بهذه المشاعر.
