ناصر فرغلى

مصر أهم من مرسى الزناتى

الثلاثاء، 24 نوفمبر 2009 06:53 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا يجب أن تمر ملابسات مباراة مصر والجزائر دون وقفة عميقة، وتأمل جدى، يتجاوز التسطيح الإعلامى التافه وبينج بونج التابلويد الورقى والمرئى على حد سواء.

سيكون هناك فيضان من الغضب لكرامة مصر والمصريين، وحكايات لا حاجة لتمحيصها عن المؤامرة والمخطط والمطاوى والسنج وبطولات نجوم المجتمع فى حماية أنفسهم أمام طوفان البلطجية الجزائريين فى شوارع الخرطوم، وأنا لا أستثنى نفسى من الاستياء والغضب تجاه هذا السلوك الهمجى وأدينه بشدة من قبل الجزائر، ولكننى أدينه بشدة أيضاً، فى مصر.

أذكّر فقط أن جمهور الزمالك منذ نحو شهرين فقط حاصر بالآلاف لاعبين من المقاولين بينهما سيد حمدى لاعب المنتخب، مما اضطرهما للجوء والاختباء فى بيت أحد المواطنين، أليست هذه قصة الخرطوم؟ أذكّر فقط أن مانويل جوزيه أقسم ألا يضع قدمه فى الإسماعيلية بعد ما رآه من رعب، أذكر فقط بفضائح ومعارك ألتراس الأهلى وشماريخهم فى السنوات الأخيرة، إن سلوك الجمهور الجزائرى فريد فى درجته وليس فى نوعه، وهو سلوك مشين فاق التصور، لأنه جاء نتيجة تصعيد إعلامى غير مسئول وغير واعٍ بالطبيعة النفسية للشعب الجزائرى وقطاعاته المراهقة والشابة على وجه الخصوص، وانبرى مصطفى عبده وخالد الغندور ومدحت شلبى وغيرهم يتوعدون فريق الجزائر باستاد الرعب، ويقولون بالنص أنهم سيفرمون كل جزائرى يعتدى على اسم مصر، بل طلعت علينا أغنية وسط الأحداث تحمل تعبير "أكله بأسنانى"، وكان الأجدى التركيز على فريقنا وأخباره وحظوظه، وتجاهل صحف الجزائر التافهة التى تتحدث بلغة لا نعرفها ووفق لعبة داخلية لا ناقة لنا فيها ولا جمل، لكن التجارة بمشاعر المشاهد والسباق للفوز بالإعلانات ونسب المشاهدة أعمى الجميع، كانت هذه البرامج نفسها تعرض مشاهد نرى فيها الطوب يلقى على حافلة لاعبى الجزائر ثم "تستعمانا" وتقول كل شىء تمام! كنت واحداً من عشرات الآلاف فى استاد القاهرة يوم 14 نوفمبر وكانت الحناجر تسب الجزائر وجمهورها بنفس القدر والحماس الذى تهتف فيه باسم مصر، وزارة الداخلية المصرية أصدرت بياناً بعد المباراة أكد وجود اشتباكات أصيب فيها 20 جزائرياً و12 مصرياً.

يعنى "زينا زيهم"، ولكنهم يفوقوننا فى درجة العنف والغوغائية، خصوصاً أننا لم نستنصح ونرسل لهم جمهور الكرة الحقيقى أو المناسب من جدعان إمبابة وشبرا والشرابية وبحرى وغيط العنب وحوارى الإسماعيلية وبورسعيد وصعايدة ديروط الشريف، وهم لا يقلون مصرية عن كبارات البلد، ولكنهم كانوا سيساندون الفريق بطريقة أفضل فى معركة الاستاد، وسيتعاملون بالطريقة المناسبة فى معارك خارج الاستاد.

رأيى فى ظل هذا الجنون الدائر، أنه لا بد من لجنة مشتركة مصرية جزائرية لتقصى الحقائق تحت رعاية جامعة الدول العربية وبمشاركة لجان حقوق الإنسان فى البلدين وعدد من كبار المثقفين وبرعاية من الحكومتين وتمويل مناسب، لكى نعرف جميعاً ماذا حدث وكيف حدث، بدلاً من أن نعيش خرافات إخراج آلاف المساجين الجزائريين وإطلاقهم على المصريين فى السودان! وبدلاً من أن نسمع أن المصريين قتلوا مشجعى الجزائر فى القاهرة، وأن الدولة هنا شاركت فى مؤامرة لتعريض لاعبى الجزائر للأذى، والدولة هناك خططت لنهر من الدم المصرى! وإلى أن تتكون مثل هذه اللجنة وتصدر تقريرها أدعو لتجميد شامل لأى إجراءات متبادلة تأخذ الطابع الانتقامى ولن تؤدى إلا إلى زيادة الطين بلة. ولكن كمثقف مصرى أدعو مثقفى مصر ومفكريها السياسيين والاستراتيجيين إلى الالتفات إلى مصيبة أكبر وأفدح، نحن فقدنا العرب.

مصر أصبحت مكروهة أهم من مرسى الزناتى اتهزم يا رجالة!
هذه الحقيقة يجب أن تكون مزعجة وصادمة وكارثية، ولا يمكن أن ينفيها كلام الدبلوماسيين، أو على أحسن تقدير كلام قسم من الفئة المسنة من الشعوب العربية، التى ما تزال تذكر زمن أمجاد يا عرب أمجاد، والتى عاشت أزمنة عبد الناصر والنحاس وأم كلثوم ونجيب محفوظ وطه حسين والعقاد وعبد الوهاب وعبد الحليم ومصطفى وعلى أمين وصلاح جاهين وتوفيق الحكيم والسنهورى ويحيى حقى والشرقاوى وعبد الصبور وعشرات المنارات التى صنعت اسم مصر، والتى لا نزال نقتات على خبزها.

يتلفت حسن شحاتة وأبناؤه يميناً ويساراً بحثاً عن ملعب محايد يكون فى صالحنا فلا يجدون، يفكرون فى غانا ونيجيريا وجنوب أفريقيا، وعلى استحياء تجىء السودان، ونفاجأ أننا فى الملعب أقلية صامتة، وأن موقعة الأعلام فى شوارع الخرطوم حسمت لصالح العلم الجزائرى.

لا نجرؤ أصلاً على التفكير فى المغرب ولا تونس ولا ليبيا، وأؤكد أن الأمر لم يكن ليختلف لو لعبنا فى أى بلد عربى آخر، ولن أنسى ما حييت جمهور الإمارات فى مباراة شباب مصر فى كأس العالم للشباب 2003 أمام الأرجنتين حين رأيتهم بعينى يتوافدون كما لا يتوافدون فى مباريات الإمارات نفسها ليشجعوا الأرجنتين ضد مصر.

كيف فقدنا امتدادنا العربى؟ كيف نجح المصريون فى تحويل هذا الحب إلى ما يشبه الكراهية؟

ما يلى هو تأملات أولى فى أسباب الواقع المؤسف دون إصدار أحكام ذات قيمة تصف بالخطأ أو الصواب ما جنته أيدينا، بقدر ما تؤكد على أن هذا الواقع هو ما صنعناه نحن المصريين لا غيرنا:

1 توقفت مصر عن التعبير عن تطلعات الشعوب العربية أو توجيهها على حد سواء، لم يعد الخطاب المصرى يعنى أصلاً بالشعوب قدر عنايته بحسابات الحكومات والسياسة الدولية، وتحول الخطاب المصرى من نصير للشعوب حتى ضد حكوماتها، إلى مجامل للأنظمة تحت وطأة حسابات اقتصادية ودولية فى الأساس.

2 على صعيد الممارسة لم يكن الحال بأفضل مما هو عليه فى الخطاب، فقد تقوقعت مصر على نفسها ومارست تقوقعها على الشعوب لا الأنظمة، ففرضت التأشيرات المعقدة لدخولها على العرب غير النفطيين، إضافة لساعات الانتظار الطويلة عند بوابات الدخول، فى حين يدخل الأوروبى والأمريكى كالسكين فى التورتة، كما فرضت على الطلبة العرب رسوماً دراسية باهظة، وتاجر بهم سماسرة الشقق المفروشة، وكلما تدهور التعليم ارتفعت المصروفات! ولم يعد لشهادة الجامعة المصرية – التى تشترى بالمال أحياناً – أى قيمة.

3 توقفت مصر أيضاً عن تجسيد النموذج الحداثى الحضارى المتطور، الذى وإن عجزتَ عن التواصل معه، فأنت تتمنى تقليده واستنساخه، واحترامه أولاً، ففيما يقلدنا العرب وينظرون إلينا بإكبار وإعجاب؟ فى النظام السياسى المتراجع؟ فى الديكور الديمقراطى سوقى الذوق؟ فى سيادة سوقية المبادئ كتوابع لزلزال اقتصاد السوق؟ فى إعلام الكم المتخلف العاجز عن تحقيق الكيف؟ فى تدنى البحث العلمى أو انعدامه؟ فى موات الرواية والشعر والمسرح والموسيقى؟ فى اليأس الاقتصادى الذى دفع ملايين المصريين للتكدس على أبواب العرب من أجل الريال والدرهم والدينار، ما دامت بلاد الجنيه فشلت فى توفير فرص الحياة الكريمة؟

4 رافق هذا – للأسف – طنطنة انفردنا بها من حيث الكم بين أمم العالم فخراً بما حققناه فى الماضى، متناسين أن آخر إنجاز عظيم حقيقى كان عبور الهزيمة سنة 73 أى قبل 40 عاماً! ولا أعلم شعباً آخر غنى لنفسه ومجد نفسه وشكر نفسه كما فعلنا نحن المصريين – باستثناء الأمريكيين!- لدرجة أننا فرضنا على كل مطرب ومطربة من العرب ضريبة أن يغنى لنا! بل إن الأغانى التى ينتجها الفوز فى مباراة كرة أضعاف أضعاف كل أغانى حرب أكتوبر العظيمة، ونكاد لا نجد فى حاضرنا وماضينا القريب ما نغنى له سوى الكرة، وأحياناً فقط، ثم أننا نطالب العرب بأن نغنى نحن وهم يقولون آمين، لقد مل العرب أسطوانات الشقيقة الكبرى وأم الدنيا والريادة دون حاضر يسند هذه المقولات، فى الوقت الذى نستنكف فيه الاعتراف بالإنجازات العربية – على قلتها – من مثل تنامى الدور الإقليمى السعودى، ومنجزات السينما المغربية والدراما السورية والإعلام الخليجى، بل حتى الكرة السعودية والتونسية والمغربية.

5 مع انحسار المنجز الحضارى المصرى الآنى، تفانى المصريون فى الاحتفاظ بشكل الزعامة وشكلياتها، فهناك قتال حتى الموت لتكون مقار المنظمات العربية المختلفة فى القاهرة، واحتكار متشبث بمناصب الأمين العام لأى شىء، واندفاع بطولى نحو أى منصب دولى ممنوع على العرب أن يسبقوا مصر إليه ومحتم عليهم دعم ترشحها له، ومن هذا الباب إحساسنا أنه حتى فى المنافسات الرياضية لا يجب أن ينازع العرب الشقيقة الكبرى فى الفوز والتأهل، كذلك من هذا الباب بالتحديد يجد العرب المتنفس الأوضح لكى يقولوا "لأ بقى!"، فيكون ماتش الكرة فرصة عشوائية تلقائية للعرب كى يعلنوا أنهم ضجوا وضجروا مما يعتبرونه نفخة مصر الكدابة.

أعلم أن كلامى سيكون قاسياً على الكثيرين، لكن هذه القسوة تصيبنى كمصرى أول ما تصيب، ولكن علينا أن نسأل أنفسنا إن كنا نؤمن بما يسمى النقد الذاتى، علينا أن نتساءل إن كنا حقاً نؤمن بأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، علينا أن نخجل من واقع فيه أعظم إنجاز ممكن هو تفوق 11 مصرياً فى عمل لا يستغرق أكثر من 90 دقيقة، بينما هناك 80 مليوناً يصفقون ويدعون الله!

فلتكن الأغنية المقبلة لأحد هذه الأشياء، مثلاً:
- مصر بلد نظيف: هل هى معجزة أن تكون بلدنا بلا زبالة؟
- مصر بلد العدالة: حيث لا تكون ساعة عمل خريج الجامعة تساوى ربع دولار، وساعة عمل المغنى النطاط محدود الموهبة تساوى آلافاً.
- مصر بلد الإصلاح: حيث النظام السياسى فى خدمة الشعب وليس العكس.
- مصر بلد النهضة: حيث هناك قراءة واضحة صريحة لواقعنا وبرنامج واقعى للنهوض، واستعداد لتحمل الألم ما دام الهدف واضحاً والدواء معروفاً والطبيب – وهو الأهم – أهلاً لثقة المريض الساعى للشفاء.
- مصر بلد القيمة: حيث لا وجود للسوقية والجمهور عايز كده.
- مصر بلد المصريين: فلن تكون لك قيمة فى الخرطوم أو وهران أو جدة إذا لم تحس بقيمتك فى القاهرة والإسكندرية والسويس والمنيا.

حين نمضى فى هذه الطريق، ونغنى لها، صدقونى سيغنى العرب معنا.

هوامش أقل جهامة، وضحك كالبكا:
• كان المغنى تامر حسنى أول من أعلن مطمئناً الناس فى اتصال مع برنامج إبراهيم حجازى عقب المباراة، أن الرئيس مبارك ووزارة الدفاع تقوم بعمل اللازم! وزير الإعلام أكد ذلك بعد تامر بحوالى ساعة!

• عرضت القنوات العظيمة مشاهداً لجمهور جزائرى يحمل سكاكين ومطاوى، تبين بعدها أنها لقطات من الجزائر نفسها وموجودة على النت منذ أيام!

• عرض البرنامج الأكثر رسمية فى مصر (البيت بيتك) مشاهد لحشود مصرية تحيط بالسفارة الجزائرية وتهتف بأن شعب الجزائر (واطي)، ثم تثنى بالهتاف التقليدى (... أمك ياجزاير)!

• بدأ مراسل النيل للأخبار لقاءه مع الفنان الأسمر على عبد الرحيم العائد من السودان بقوله: "بنرحب طبعاً بالكابتن الكبير طه بصرى.."!

• بيان وزارة الصحة المصرية، قال إن عدد المصابين المصريين فى الخرطوم 21 إصاباتهم طفيفة، سحجات وكدمات ولا وجود لطعنات.

• الحمد لله أن الصورة لم تكن مكتملة القتامة، وكانت هناك أصوات محترمة عبرت فى المشهد، بينها: عمرو الشوبكى، فاروق الفيشاوى، فتوح أحمد، ياسر أيوب، حمدى رزق.

• نجا اتحاد الكرة والجهاز الفنى من النقد، ونجا شعب مصر من الإحباط، ونجت الحكومة من إحباط شعب مصر.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة