سنوات طويلة ظن فيها الكثيرون أن المصريين نسوا الوطن، أو أنهم ابتعدوا عن مشاعر الوطنية، وأن ما يطلق عليه كبار المسئولين ورجال الإعلام والحكومة الانتماء، غاب عن الساحة أو سافر للخارج.
الأيام القليلة الماضية شهدت الكثير من الأعلام المرفوعة، ووصلات عارمة من الوطنية، ولم يبخل الإعلام الفضائى، وأطلق سيلا من الأغانى الوطنية التى كنا نسيناها أو تناسيناها، وكلها تنتمى إلى ماض يعتبره كثيرون ماضيا. حدث هذا فى مصر ومع جماهير الجزائر، لكن الروح الوطنية ترجمت إلى شتائم وسباب. وحرق أعلام. بفضل أساتذة التسخين الفضائى، وكأننا لايمكن أن نحب الوطن من دون أن نشن حربا على منافسين، هم بالصدفة أشقاؤنا، وبعض أغانينا الوطنية المستدعاة كنا نغنيها لهم ومعهم.
خلال المعركة بين الجزائريين والمصريين، تخلى كل طرف عن اعتقاداته السابقة حول الآخر، وأسقط عنه كل ميزة، وبدا الوطن تائها وسط صراخ وضجيج، مع أن كل فريق رفع علم بلاده، واعتبره رمزا لوطنيته، وهو شعور كاد يندثر بسبب النعرات الطائفية والتعصب، وخرج من يعتبر العلم مجرد قطعة قماش، وفى موقعة «المباراة»، كان حرق علم مصر فى الجزائر، وحرق علم الجزائر فى مصر إحدى أدوات التسخين، مع فضائيات أثبتت أن العرب ظاهرة صوتية وفضائية.
ولو كان حرق الأعلام يفيد، لكانت إسرائيل انتهت من زمان. فقد أحرق المتظاهرون العرب من المحيط إلى الخليج ملايين الأعلام لإسرائيل دون أن تتراجع عن عدوانيتها أو استيطانها، وكان حرق الأعلام يقويها، فلم تهتز للإسرائيليين شعرة. والعلم الأمريكى الذى حرقه العرب ملايين المرات، دون أن يستطيعوا منع القدر، فلا الحرق منع غزو العراق، ولا دفع أمريكا للتعاطف مع العرب أكثر، ولم يثبت أن أمريكا وإسرائيل اغتاظتا من حرق أعلامهما.
وربما بسبب الملل والشعور بالعجز تجاه إسرائيل وأمريكا، رأينا عربا يحرقون علم مصر فى أحداث غزة، بعد تحميلها المسئولية، وجزائريين يحرقون علم مصر فى مباراة كرة قدم، ويرد المصريون بحرق أعلام الجزائر. بعد أن اكتشفوا أن حرق الأعلام أصبح ممتعا ومسليا، مع أن إسرائيل كانت تربح من حرق علمها. بينما نخسر نحن دائما.
هل يمكن اعتبار حرق الأعلام جزءا من ظاهرتنا الصوتية، تماما مثلما نجيد ترك قضايانا الأساسية ونتفرغ لسب بعضنا والتعارك مع اخواننا، لقد تعارك العرب مع بعضهم أكثر مما تعاركوا مع إسرائيل، وقتل الفلسطينيون من بعضهم أكثر مما قتلوا من الإسرائيليين، التى نكتفى بحرق أعلامها، بينما نحرق بعضنا، بسبب مباراة أو شتيمة، ولننظر كل هذا الكم من الفضائيات العربية التى يجيد مذيعوها الكلام والصراخ، وأنجح برامجها تلك التى يلعن فيها الضيوف بعضهم ويمزقون ملابس بعضهم. لأن الجماهير العربية غير مدعوة لأن ترفع العلم، فى قضايا جادة، ولأن خروجها فى غير مناسبة كروية مرفوض. وعندما يتوقف العرب عن تبادل حرق الأعلام، وشن الحرب بسبب مباريات ربما يمكنهم أن يقدموا شيئا مفيدا غير حرق العلم. ولو كانت الانتصارات بحرق الأعلام لكان العرب أكثر شعوب الأرض انتصارا.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة