((وكأننى أسمع جدودنا فى قبورهم وهم يلعنون هذه الفتنة ويلعنون من أوقدها ويصبون غضبهم على من أيقظها، وأكاد أرى أحمد عرابى وعبد الله النديم ومصطفى كامل ومحمد فريد وجمال عبد الناصر ومعهم الأمير عبد القادر الجزائرى والعلامة بن باديس ومالك بن نبى والشيخ البشير الإبراهيمى وجميلة بوحريد وهم ينظرون إلينا من وراء الحجب نظرة حنق )).
أغلب الظن أننا لا نعرف الأديب الجزائرى الكبير حسين ليشورى أو نعرف قدر إبداعاته الأدبية التى ترسخ لقيم وطنية حقيقية ، ولكننا بالقطع نعرف الزعيم الدينى الجزائرى الشيخ عباس مدنى زعيم الجبهة الإسلامية للإنقاذ ، أما عن الشيخ مدنى فقد كتب بيانا حكيما عقب الأحداث المؤسفة التى تلت "موقعة" السودان والتصعيد المتبادل الذى وصل إلى درجة غير مسبوقة قال فيه بعد أن دعا إلى وأد الفتنة " متى كان المصرى ضد الجزائرى أخيه؟ ومتى كانت الجزائر ضد مصر أبدا هذا لن يكون ولن يكون أبدا".. ومع ذلك لم يسلم الشيخ الوقور من صحافة الفتنة فى الجزائر ونال منها ما ناله من غمز وتحقير وهو الذى على مشارف الثمانين.
أما عن ليشورى فقد كتب مقالا رائعا عقب أحداث الفتنة الثانيةـ عفوا المباراة الثانيةـ يعزى نفسه ويعزى الأمة فى وحدتها التى فقدتها عقب مباراة كرة، وألقى باللائمة على يدٍ هنا ويد هناك عبثت فى الأمن القومى للأمة بأسرها إما بحثا عن مصالح خاصة أو تنفيذا لمخطط صهيونى محكم.. وأبدى ليشورى ذهوله وألمه من مشاهد حرق العلم المصرى على يد مجموعة من الصبية الجزائريين الذين لا يعرفون قدر هذا العلم وقدر مصر التى لم تتأخر عن مساعدة إخوانها فى كل الوطن وقت الشدة أو حتى فى أوقات الرخاء.
لم يكن بيان عباس مدنى أو مقال حسين ليشورى ــ أو حتى بيان المثقفين الجزائريين الذى دعا عقلاء الأمة إلى التضامم لوأد تلك الفتنة ــ مجرد مبادرات فردية لا تعبر إلا عن أصحابها ، ولكنها كانت وطنية صادقة تعبر عن مشاعر حقيقية لغالبية الشعب الجزائرى .
فلم يكن أهلنا فى الجزائر أو أهلنا فى مصر ينتصرون فى هذه المباريات، لوطن ولكنهم فى حقيقة الأمر كانوا ينتصرون لفريق كرة، والوطن لا يمكن تلخيصه فى فرقة كرة أو ركلة قدم قد تصيب تارة وقد تخيب تارة أخرى.. إلا أن واقعنا فى مصر وفى الجزائر جعلنا نفتقد لمشروع قومى يلتف الناس من حوله وينتصرون له فبات الانتصار معدوما إلا فى مجالات اللعب والكرة.. ومن أسف أنناـ مصر والجزائرـ فى ذيل الأمم فى كل مجالات البحث العلمى والصناعة والزراعة والتعليم.. نحنـ مصر والجزائرـ شعوب فقيرة مغلوبة على أمرها معظمنا يقبع تحت حد الفقر، نموت فى حوادث القطارات والعبارات ونهلك من أمراض الكبد والسرطان الذى انتشر بالمبيدات المسرطنة.. ويهلك أهلنا فى الجزائر من الفقر والجهلـ أربعون بالمائة من الجزائريين تحت خط الفقرـ وقتلاً تحت رايات التعصب الذى يتستر بالدين، وغرقا أثناء التسلل بمركب متهالك إلى فرنسا.. زادت عندنا وعندهم معدلات البطالة إلى درجات مفزعة فأصبح ما يؤرق حكامناــ الذين حصلوا على دكتوراه فى حكم الشعوب- هو البحث عن وسيلة لتفريغ احتجاجاتنا وثورتنا وتوجيهها فى مجال آخر بعيدا عن رؤوسهم، فكانت كرة القدم التى أصبح بموجبها حسن شحاتة ورابح سعدان شركاءـ من الباطن- فى حكم مصر والجزائر، إذ بدونهما ستكون العاقبة وخيمة على رأس حكوماتنا، لذلك كان لا بد من التوظيف السياسى لكرة القدم وتحويلها من مجرد لعبة إلى مشروع قومى يلتف الناس من حوله ويعتبرونه هو الوطن ، فإذا انهزمنا فإن الوطن هو الذى انهزم وإذا فزنا فاز الوطن ، من أجل هذا لم نر الناس عندنا ترتفع مشاعرهم الوطنية إلى عنان السماء بعد حرب أكتوبر إلا قبل وأثناء هذه المباراة وكأن الجزائر هى إسرائيل!! ولم نر وطنية إخواننا من شعب الجزائر تصل إلى هذه الروح المقاتلة العنيدة بعد ثورة الجزائر التى بدأت عام 1954 إلا عند هذه المباراة، وكأن جهادهم ضد الاستعمار لا يزال متواصلا وكأن مصر هى الاستعمار!!.
من أجل هذا كله فإننى لا أظن أن الهوس الذى حدث بين البلدين الشقيقين مبعثه وطنية حقيقية، ولكنها للأسف الشديد وطنية مزيفة تم تسييسها لمصلحة فئة بعينها، كما لا أظن أن الأعلام التى تم رفعها كانت أعلام البلد الحقيقية ولكنها كانت أعلام مشروع وطنى وهمى لا يتغذى إلا على التعصب الغبى.. ولذلك كان من ظنى أن يقف العقلاء من النخب المتميزة من البلدين موقفا عاقلا موجها لمشاعر الجماهير إلى وجهتها الحقيقية ولكن للأسف تراجعت معظم النخب واختبأت خلف صيحات المتعصبين دون أن يكون لها أثر.
وإذا كنت لا أحب التترس خلف نظرية المؤامرة إلا أن أصابع الصهاينة كانت ظاهرة بلا خفاء .. فقد انتهزت إسرائيل الفرصة فأوقدت الفتنة بيننا .. فها هو صحفى إسرائيلى يتم القبض عليه فى مصر وهو يلتحف بالعلم الجزائرى بعد المباراة الأولى ويهتف ضد مصر هتافات مستفزة.. وهاهى الشائعات المصنوعة بدقةــ وهى شائعات مركزها الرئيسى تل أبيب- تجد طريقها للإفساد على يد صحافة جزائرية مفسدة تروّج عن مقتل عدد من الجزائريين فى القاهرة عقب المباراة الأولى، وكان من المؤسف أن تتأخر السلطات الجزائرية فى نفى هذه الشائعات حتى أن النفى جاء على استحياء رغم أن صاحب أى عقل فى الجزائر كان يدرك أن هذا الخبر لو كان صحيحا لقامت الجزائر فورا بإبلاغ "الفيفا" بغية إلغاء نتيجة المباراة، وهاهى الصحافة الجزائرية الرسمية تنطلق فى وصلة سب بذيء وتعيير بالفقر للشعب المصرى مع أننا "فى الهوا سوا" وتقارن بين مصر والجزائر فيكتب أحد المأجورين فى صحيفة النهار" إن بلد المليون شهيد سيهزم بلد المليون راقصة" !! ويكتب آخر "إن مصر تنام فى حضن إسرائيل" !! وهاهى الفضائيات المصرية الخاصة تطلق عنان انفعالاتها غير المسئولة وتهاجم فى رعونة وجهالة الشعب الجزائرى وتسلب منه عروبته بل وإسلامه .. وهاهو إعلامى مصرى ينتفض غاضبا بعد أحداث السودان طالبا ضرب الجزائريين فى مصر !! ولاعب معتزل يعلن أنه سيكون مشجعا لإسرائيل لو لعبت مع الجزائر!! وها هى صور مفبركة عبر الفيس بوك تزعم أن الجزائريين كانوا يحرقون المصحف فى المدرجات وكأن المصحف هو كتاب المصريين وحدهم دون باقى المسلمين !! مع أن الواضح من الصور المفبركة أن المصحف كان فى يد أحدهم مصونا وكانت بضعة أوراق لا هوية لها تحترق بجوارهم!! وانفلت الزمام من بين أيدينا جميعا وضاعت البوصلة وتحول الوطن إلى فريق كرة قدم وتحولت الشعوب إلى جمهور متعصب يسعى إلى الثأر من الجمهور الآخر حتى ولو كان بقتله والتنكيل به.. فإذا كانت الخلافات صناعة عربية إلا أن الفتنة صناعة صهيونية.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة