هل رأيت الصورة "اللقطة" التى أعنيها؟!
إنها صورة الجسد الكريم المسجى وهو فى طريقه إلى الدفن، لعلك تقول فى سرك، هذا هو الدكتور العالم، هذا هو ما فعل ما يمكث فى الأرض، يوارى جسده النحيل داخل الأرض؟!
لا أعرف لماذا رنت فى أذناى فى هذه اللحظات الحزينة نغمات الناى الحزينة أيضاً التى كان يبدأ بها برنامجه الذى حفر فى وجدانى وعقلى مكاناً حصرياً لم تطمسه السنون.
دع دموعك من فضلك تنساب ولا تحبسها، فهذا رجل بكته السماء، فتشبّه.. وتأمل.. فلطالما علمنا العالم الجميل أن نتأمل، تفكر فلطالما تفكر الدكتور الحبيب إلى قلوبنا وعقولنا وحيره لغز الحياة، ولغز الموت، فماذا وجدته الآن يا صاحب النفس الراضية المطمئنة؟!
لحظات قاسية من التأمل، وما أقسى أن تفارق عزيزاً، كان له عليك فضل وجميل وهو لا يدرى، وأنت أيضاً لم تكن تدر فى حياتك كيف ترد له الجميل وكيف تعترف له بالفضل، فلتفعله له إذا بعد الموت!
فى الثمانينيات كانت تعرض حلقات "العلم والإيمان" التى كان لها الفضل فى أن أصبح من المصلين بعد أن لم أكن منهم، وبعد أن فشلت كلمات "صلّى" التى كنت أسمعها من والدىّ لأنهما كانا من المصلين، نجح مصطفى محمود فى إقناعى بما فشل فيه أهلى فأصبح قريباً جداً من قلبى وعقلى على بعده.
وقتها كنت أقرأ ذات اليمين وذات اليسار وذات الوسط، أقرأ وأنتمى، أقرأ وأتحمس، أقرأ وأتبنى الأفكار والمذاهب، خطوة للأمام وأخرى للخلف، ووقفات بلا حراك.
بعد "العلم والإيمان" بسنوات وفى المرحلة الجامعية، عرفت قدماى خطواتها إلى مسجد محمود فى العيد، فى هذه الحقبة كان الأمر بالنسبة لى مهماً لأننى أحببت مصطفى محمود وأحببت الشيخ محمد الغزالى الذى كان يخص المسجد بخطبة العيد من كل عام ولعدة أعوام متتالية، فكان العيد فى هذا المكان يعنى بالنسبى لى "لقاء قمم" لطالما أثرت فلسفاتها فى مسارات حياتى.
اللقاء الدافئ الذى كان يجمع الأسرة أسبوعياً مع "العلم والإيمان" لم يكن عادياً، ترن فى أذنى قهقهته التى تشبه قهقهة جدى رحمه الله، ترحيبه المميز "أهلا بيكم" الذى يشع إخلاصاً من المقدم الوحيد والمعد الوحيد لبرنامجه والرجل الوحيد الذى يعلم قيمة وأهمية ما يقدمه لك، الوحيد الذى يقدم لك هدية واحتراماً لعقلك وإنسانيتك وأهليتك فى أن ترى وتسمع وتعرف، وكل هذا فى مقابل أن تصبح "الإنسان" كما أراده الله.
اعرف من الشيوخ من تعرف كما شئت، فهل سمعت عن مركز يعقوب الصحى، أو حسان الرياضى، أو .. أو .. لم يكن محمود شيخاً ذا لحية ولا سبحة وإنما إنساناً أقام الدين، عرف أن كل ما من شأنه أن يقيم الحياة كان إقامة للدين، ففعل.
لم يدع اليتيم، وكان ممن يحضون على طعام المسكين، ولم يكن لأجل ذلك بحاجة إلى فضائيات تمنع ظهور النساء، ولم يحتج لأجل ذلك إلى اللعب مع الكبار، أو الصعود على جثث الفقراء والمستضعفين، هذا (كان) زمن مصطفى محمود.
"الإنسان" الجميل عاش جميلاً، يضع تفسيرا عصريا للقرآن، يعزف على العود والناى ويطرب للنغم الجميل، يكتب إنتاجا أدبيا لم يخل من جمال وعمق وفلسفة، ولا يكتفى، فيضع أمام عينيك ويحشو أضلعك بكل ما من شأنه أن يجعلك كالملائكة.. من المسبحين.
مصطفى الإنسان بجوار تلسكوبه، هو مصطفى الإنسان فى محرابه، هو مصطفى الإنسان وسط الناس، وهو مصطفى الإنسان مع أسرته الصغيرة، أحب زوجته بإخلاص فتزوجها، وعندما انفصلا لم يبخس زوجته حقها فكان يحمل إليها راتبه كل شهر كما يروى المقربون من العالم الإنسان، وهكذا يفعل من يعرف.. الله معرفة لا ادعاء.
تأمل قوله عن نفسه عندما طلب للوزارة فاعتذر، تأمل وصفه لنفسه بأنه لا يصلح للسلطة لأنه فشل فى أن ينجح أسرياً، أى رجل هذا، تأمل وتساءل، كيف لم تأخذه العزة بالإثم، كيف.. وكيف.. وكيف؟!
عندما عرفت أنه أصيب بالزهايمر فى أواخر أيامه، قلت فى نفسى هذه أيام تستحق، تستحق أن تسقط من ذاكرة محمود الجميلة الثرية، هذا زمان اللاشىء واللاقيمة.
لست ومتشائمة، ولا أزكى العالم الجليل على الله وإنما هذه جزء من الحقيقة، وبعض من محاسن رجل كبير عاش فى مربع صغير، بلا حصانة برلمانية ولا بوليسية، فاتته مارينا والبورصة والوزارة ولم يلهث خلف شىء ولم يلهث خلف أحد، ولم يكن من أصحاب السى دى، فهل فاته الكثير الآن؟!
لم يفت مصطفى محمود شىء.. عاش جميلاً نقياً، وهكذا مات، عاش نفسه ومات نفسه، وتركنا لنتأمل كما كان يحب، كيف أننا لا نعيش أنفسنا نحن كما نحن ولكننا عند الموت.. نموت أنفسنا وليس أحداً آخر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة