لم تعرف يوم ولدت أن القيم والمبادئ قد تبدلت.. وحل محلها الكذب والنفاق.. توهمت أن القلوب ما زالت تنبض فيها شرايين الرحمة.. وتلين إشفاقا على البؤساء.. ظنت أن فى الحياة خيرا لابد فى النهاية أن يقهر كل شر على الدوام.. عاشت كما الصغار من بنى جنسها لا تبالى .. ولا تدرك عن القادم شيئا قد تخشاه.. فما دامت الحياة هكذا فلابد أن تحياها.. كبرت مع الأيام أحلامها.. وإلى عنان السماء وصلت أمنياتها.. توسمت فى كل من حولها الطيبة.
لم تقرأ أبدا ما بين السطور، ولم تنظر إلى ما خلف الأقنعة.. فكان أول احتكاك مع البشر زلزال هز جسدها وكسر ضلوعها وأخرج أحشاءها. أيقنت أن لا معنى لكلمة "بشرية" ولا وجود لـ"إنسانية".. سمعت عن شباب يغرقون فى أعماق البحر هربا من الموت جوعى أو من الانحراف والسرقة.. ماتوا بحثا عن حياة كريمة فقط أرادوا أن يحيوا طالما وجدوا فى الحياة.
علمت بالأرواح التى تزهق كل يوم فى حوادث الطرق، رغم الإعلان عن إنفاق مئات الملايين من الجنيهات على تطوير هذه الطرق.. أفزعها نبأ حادث قطار الصعيد الذى احترق، وتفحمت فيه جثث المئات.. واسودت الدنيا فى عينيها بعد غرق الأبرياء فى عبارة السلام 96 التى راح ضحيتها المئات ولم يتحمل المسؤولية عنهم أحد، رغم القوانين والدساتير والسجون والاعتقالات والأمن والبلدوزرات التى لا تستخدم جميعها إلا للأهواء.. أصبحت تنام على صوت كارثة وتصحو على صوت كارثة أخرى.. والقائمون على الأمر باقون صامدون متحفزون لأى بوق يعلو هنا أو هناك.. لا يهتز لهم حاجب.. بل يزدادون قوة وتوحشا.. يعبثون بالدستور.. ويفصلون القوانين على مقاساتهم.. يغتنمون الثروات، ويدعون العمل من أجل الناس.. حتى انتفخت بطونهم وترهلت.
أدركت المسكينة أن الفساد والقوة هى القانون، ولا قيمة لفقير أو ضعيف، وأن البشر لا يتغيرون.. ورغم أنها ليست بشرية فقد هالها حالهم وشعرت بأن الناس لا يمكن أن يغيروا شيئا.
اختارت بمحض إرادتها الرحيل.. وتيقنت أن الموت هو طوق النجاة.. رحلت ولم تكن تعلم أنها ستصبح الأشهر من بنى جنسها فى هذه الدنيا، وأن رحيلها سيهز أحد معاقل الفساد.. ويخلع طوبة من قلعة الظلم والاستبداد.
كشفت برحيلها كل الأقنعة.. ووضح ما بين السطور.. كان رحيلها حقا موجعا، ومؤلما لمنعدمى الضمير، أكلى لحوم البشر من المسئولين الذين يتاجرون بالمواطنين.. باعوا مصريتهم منذ جلوسهم على كراسيهم.. فلا هم لهم سوى كنز الأموال.
غادرت وتركت "رسالة" واضحة جلية هى أن الحيوانات ثارت ولم تعد تطيق تخريب البشر وأن ثورة الخنازير والطيور والجراد والفئران مجرد بداية.. وأيضا رحيلها هى تحت عجلات قطار العياط، واستقالة وزير النقل كان مجرد بداية.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة