حمدى رزق

ضاع الحلم.. وبقى العَـلم

الخميس، 19 نوفمبر 2009 06:43 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
خسرناها نعم.. مباراة كان يفترض أن تفضى بنا إلى كأس العالم 2010، بهدف واحد فى مرمانا خرجنا من هذا الحلم الذى عم البلاد كلها وانقلب الحلم إلى مساحة من الصمت الرهيب، صمت الحزن حين ينكسر الحلم، ما أمره من صمت أبلغ من كل تعبير باللسان والقلم، ولكن الويل لمن يستسلم للحزن، فالهدف الجزائرى الذى دخل مرمانا دخل فى مقابله هدف أعظم !

نحن فى الحقيقة لم ننهزم، خسرنا نعم لكن الهزيمة لا تكون إلا بانكسار الروح، فهل انكسرت؟ هل نكسنا أعلامنا؟ حاشى وكلا، لا تنكس أعلام مصر أبدا، خفاقة على الدوام أعلامنا، هتاف الوطن الذى دوى فى القلوب أياما متصلة بين لقائى القاهرة والخرطوم لن يخبو أبدا، الوطن باق والعلم خفاق والرياضة غالب ومغلوب، خصوصا لمن قاتل معركته بشجاعة أمام فريق سجل رقما قياسيا فى العنف فى مواجهة فريقنا، كان اللاعبون المصريون يحاربون حربين، إحداهما دفاعا عن سلامة أجسامهم من العنف الجزائرى غير المسبوق، والثانية حرب الكرة التى يجب أن ينتصروا بها ولها، فهل هذه مباراة نبكى عليها؟ إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن، غير أن الروح لا ينبغى لها أن تنكسر والهامات لا ينبغى لها أن تنحنى، والعلم الخفاق يجب أن يظل فوق الرءوس.. كل الرءوس سنقوم مجددا وسوف ننهض من الكبوة ونسترد سعادة كنا نتمناها أمس الأربعاء.

إن نظرة متعمقة لمباراة مصر الجزائر أمس، تؤكد أن لاعبينا قاتلوا حتى آخر لحظة، وأنهم لعبوا لعبا نظيفا فى مواجهة حرب تكسير عظام من المنتخب الجزائرى، حرب غير مسبوقة، إن الفريق الجزائرى ذهب إلى (معركة) دموية ولم يذهب إلى مباراة فى كرة القدم تلعب بروح رياضية بين شقيقين عربيين!

نعم.. لابد أن لدينا أخطاء يجب أن نتوقف أمامها وأن ندرسها وألا ندفن رءوسنا فى الرمال، لكن يجب ألا نجلد أبناءنا أو أن نعرى ذواتنا من كل لمحة إيجابية كانت فى منتخبنا، قاتل رجالنا ببسالة ولم يحالفهم التوفيق، انقلب على أعقابنا والعلم قائم خفاق والوطن مرفوع الرأس، إن الثوابت لا تهزها متغيرات عابرة كمباراة كرة قدم، والاحتشاد الذى فى القلوب لا يزول بخسارة عابرة فى لقاء عنيف دموى غير رياضى كالذى كان فى إستاد المريخ بأم درمان أمس.

آلاف من المصريين زحفوا إلى الخرطوم تاركين أعمالهم ومصالحهم، ذهبوا وراء منتخب يحمل اسم مصر، ويرفع راية مصر ويردد نشيدها الوطنى الهادر فى الملعب، لم يكن هؤلاء المشجعون متحمسين حماسهم المعتاد فى اللقاءات الرياضية، وإنما كانوا يرفعون اسم الوطن وعلم الوطن، من حشد كل هذه الآلاف المؤلفة من المصريين فى إستاد المريخ السودانى؟ من دعاهم إلى حمل الأعلام المصرية؟ من قال لهم اهتفوا باسم هذا الوطن الجميل؟

إنها الروح الوطنية التلقائية المشبوبة التى اشتعلت فى الصدور، قاتل المصريون معركة كبيرة، معركة تمحو كل الأدران التى غلفت القلوب والشكوك التى بثها المشككون، وثورة يوليو المجيدة قد انطفأت، قالوا إن عموم 1919 قال بعضهم إن الروح الوطنية المصرية قد خبت وأن الشعلة التى ألهبت الصدور فى الثورة العرابية وثورة المصريين انشغلوا بأكل العيش والبحث عن اللقمة الحلال فى الزمن الصعب، شككوا لسنوات فى الروح الوطنية، فإذا بهذا الشعب الذى يعلمهم كل يوم درسا جديدا فى حب الوطن بنبل وصمت، يهدر رافعا الأعلام هاتفا باسم الوطن.. مصر، مصر، مصر.. هل يمكن بعد ذلك أن نشكك فى أن الناس قد نسيت الوطن ونكست العلم وانشغلت بخاصة أمرها، كما يقول هؤلاء الذين يريدون أن يصوروا البلد مثل شاشة سوداء؟

ربما ينسى الناس فى كفاحهم اليومى هذه الروح العظيمة، ربما تتوارى إلى ركن من الوجدان، نعم.. الهموم كثيرة والحياة صعبة فى مواجهة كثيرين من البسطاء، نغضب.. نعم، نختلف.. أكيد، نذهب فى الخلاف إلى مدى بعيد.. لاشك، لكن هذا كله يمحى تماما مع النداء الوطنى الصادق.. يلبى المصرى نداء مصر كما لا يلبيه إنسان آخر فى أى بلد.

كان المصريون بحاجة إلى صحوة تهزهم وحلم يلتفون حوله، صحوة صادقة ليس وراءها من يناور أو يكذب باسم الوطن، صحوة ليست فيها أجندات خارجية ولا حسابات سرية، وحلم واضح كالشمس فى كبد السماء، بسيط ومحدد فى انتصار رياضى جليل، يبعث النشوة فى النفوس، ويرفع اسم مصر عاليا .

لم يكذب الناس خبرا.. انطلقوا، رفعوا العلم، هتفوا باسم مصر، انبعثت من داخلياتهم كوامن حب مصر، وقفوا وقفة رجل واحد وراء جيش من 11 رجلا من منتخبهم، ساندوهم معنويا كما لم يفعل مشجعو أى بلد آخر فى لقاء رياضى، سافروا وراءه إلى الجزائر وإلى السودان، تسابقوا وتزاحموا من أجل تشجيع منتخبهم، باتوا ليلهم فى القاهرة السبت الماضى يهتفون ويفرحون ويسجدون شكرا لله، وتعاظم الأمل فى النفوس، غير أن ملابسات كثيرة وأخطاء وروحا عدائية من الفريق الجزائرى، طوحت بالحلم بعيدا، فهل يعنى ذلك أن وطنية المصريين كانت مرهونة بهذا اللقاء الكروى وحده؟، هل كانوا يشجعون منتخبنا (على حرف)؟

لا والله، إنما كانوا صادقين مستبسلين فى تشجيعهم بسالة لا تقل عن بسالة منتخبهم الذى قاتل بشرف فلم يحالفه التوفيق.

سينبرى بعضهم جالدا المنتخب، وربما يجلد الذات المصرية نفسها، سيتقول بعضهم على الوطنية، سيدعو بعضهم إلى تنكيس الرايات، وسيهتف بعضهم بالهزيمة، لكن أحدا لن يصدق شيئا من هذه الأكاذيب.

المنتخب لا يستحق الجلد، لقد نجح فى مرحلة تلو المرحلة، تدرب وقاتل بشجاعة ورجولة، لم يأل جهدا فى المران ولا أدخر شجاعة وبسالة فى الملعب، وصل إلى المرحلة الأخيرة، وكان قاب قوسين أو أدنى من النصر واختطاف بطاقة التأهل للمونديال، فهل يعنى هذا أن نجلدهم ونمحو انتصاراتهم الكثيرة والمهمة؟ هل ننسى كل ما تحقق من جولات مضيئة لنتذكر جولة واحدة خسرناها؟ أن المنتخب حقق الكثير فى محاولته الجادة الدءوبة للصعود إلى المونديال، اجتهد وأصاب ثم اجتهد وخسر، وله أجره.. والأهم ألا ننسى كل ذلك، أن تأمل إنجاز المنتخب يؤكد أننا يمكن أن نبنى على ما تحقق، وأن نؤسس على الإيجابى وأن ندرس الأخطاء، واللقاءات قادمة والمونديال القادم فى جنوب أفريقيا ليس آخر مونديال، معركة واحدة لا تعنى خسارة حرب بأكملها.

لا تجلدوا حسن شحاتة الرجل حقق الكثير ولا تنقلبوا عليه انقلابكم على الجوهري، (المعلم) صنع الكثير بهذا المنتخب ولهذا المنتخب، وسوف يصنع أكثر فقط أعطوه وأبناءه الفرصة، قفوا إلى جوارهم، ادعموهم، إنهم اليوم فى حاجة إلى التقدير والمساندة أكثر مما مضى، الكرة الآن ليست فى الملعب بل تحت المجهر، والوقت وقت تأمل ودراسة لا وقت جلد للذات ولا بكاء على اللبن المسكوب، ارفعوا رءوسكم فلسنا مهزومين!

أما الذين سيجلدون الذات المصرية فإنهم فريق على عكس فريقنا القومى، أدمن الهزائم وطعمها فى فمه ليس بعد حلاوته حلاوة، يستمتعون استمتاعا شاذا بجلد الذات المصرية، وتسويد وجه الوطن، عاشوا فى الهزائم زمنا ويبدو أنهم تربحوا منها على كافة المستويات، عموم المصريين يلفظ هذا التيار الشامت فى الوطن، سيقولون ما الذى صح فى هذا الوطن لكى تصح الرياضة؟، حفظنا عن ظهر قلب تخريفاتهم العمدية وغير العمدية (أحيانا يخرفون أوتوماتيكيا، كان الله فى عونهم)، نستطيع أن: نذكرها لهم مقدما، الناس منها يضحكون، وعليها يتغامزون، تبت يدا من شمت فى الذات الوطنية أو استهزأ بروح المصريين المشبوبة حبا للوطن.

قطع لسان من سيعود للتشكيك فى وطنية المصريين، أنه فى الحقيقة يسعى لهدم الروح الوطنية، يتآمر بليل على الوطن لأجندات تخصه 1967، أما الذين سيدعون لتنكيس العلم فلتقطع أيديهم قبل أن تسول لهم أنفسهم القول بذلك، الوطن خرج من أحلك الهزائم قبل ذلك بعزم أبنائه، خرجنا من هزيمة بالحسابات العسكرية أيضا، ألا يمكن لنا أن نعبر بسهولة خسارة، ولا نقول هزيمة، 1973التى كانت مروعة بالحسابات العسكرية وحققنا نصرا هائلا شامخا فى عابرة فى مباراة كانت أبعد ما تكون عن روح الرياضة السمحة، وعن التحضر المطلوب فى اللقاءات بين المنتخبات الرياضية .

إن الحلم الذى أنار ليالى المصريين طوال الأيام الماضية كان حلما براقا حقا، ومن ورائه روح عالية قوية راهن الكثيرون على أنها قد اختفت !

دفاع المصريين عن هذا الحلم، وما فى هذا الدفاع من قوة يثبت أن الطاقة الوطنية داخل النفوس كبيرة ويمكن الرهان عليها، طاقة خلاقة جموح، يمكن أن تخرج فى أشكال شتى، وليس فقط فى لقاءات كروية حاشدة ومهمة، يمكن أن تخرج فى مشروعات قومية كبيرة يلتف حولها أبناء هذا الوطن، يمكن أن تتحول خلال ثلاث سنوات وليس فى الأمر سخرية، كبريات دول العالم فى الرياضة أن خسرت درست أوضاعها ورتبت أوراقها وعاودت الكر والفر 2014 لدعم المنتخب من جديد للتأهل لمونديال لصالح بطولات مستقبلية ولنستعد من الآن..

يمكن أيضا أن تسرى هذه الروح فى النفوس ضد من يحبطون الناس ويظلمون الوطن ويطفئون الأنوار، يمكن أن تتحول إلى الكثير من الشموع التى تضىء لأجيال متعاقبة، ملايين الشموع التى تضىء وتبعد الأشباح السوداء من غرفة القلب العاشق لمصر .

وعبر هذا الجسر الجديد الذى بناه ملايين المصريين ممن شجعوا منتخبهم باستبسال، يمكن أن نحقق الكثير.. فقط فلنحافظ على هذه الجذوة المشتعلة الجبارة التى أبداها المصريون .

لقد عرفنا كيف نتفق وكيف يتبدد الخلاف، إذا كانت هناك قيمة يمكن أن نجمع عليها، وأى قيمة أكثر شموخا من قيمة الوطن ذاته؟َ!

لقد عرفنا كيف نحب هذا الوطن دون جدل كثير ولا اقتتال على أجندات يضعها آخرون من خارج الوطن، وأى حب أعظم من حب هذا البلد؟!
شابا مصريا ومدربهم المخضرم فحققوا الكثير، فماذا لو شجعنا كل شبابنا بصدق ومنحناهم الفرصة ومنحناهم الحب؟! لقد شجعنا.

إن أكبر مكسب حققه المنتخب المصرى لم يكن على المستطيل الأخضر فى ملعب المريخ السودانى إنه كان خارج الملعب، كسبنا العلم الخفاق، كسبنا شموخه، كسبنا الأيدى التى أجمعت على رفعه هاتفة لمصر، كسبنا هديرهم فى الإستاد السودانى الهدير الذى كان يتمنى نصرا للوطن كله.

من يد أصغر طفل إلى يد أكبر الكبراء، امتدت الأيدى قابضة على العلم المصرى، لم نر إجماعا كهذا من سنين طويلة، وبدا العلم بهيا قويا كما لم يبد من زمن بعيد، خفاقا كما لم نره من قبل إلا قليلا، انتصر العلم انتصارا لا علاقة له بنتيجة مباراة الجزائر فى أم درمان، كان فوق كل التفاصيل، أنعش الروح الوطنية وأيقظ الأمل فى النفوس .

لتبق الأعلام المصرية خفاقة فوق خسارة مباراة عابرة مهما كانت الآمال المعلقة بهذه المباراة، ليبق العلم المصرى محل اتفاق من الجميع، وقد رأينا قوتنا ونحن متفقون على حب هذا البلد، ليبق العلم مرفوعا، يعلم أطفالنا الذين رفعوه بفطرتهم معانى الوطنية النقية.

نعم خسرنا مباراة.. لكننا كسبنا العلم، وبالعلم نسكب الكثير، ليس مباراة واحدة فقط، ولكن مباريات كثيرة فى السياسة والاقتصاد والتكنولوجيا والثقافة والرياضة أيضا، النتيجة الحقيقية لمباراة مصر - الجزائر أمس تتغير تماما إذا وضعنا علمنا الخفاق فى الحسبان..!





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة