لن أكون متشائماً حين أقول إننا أصبحنا على حافة الهاوية.. وأصبحنا مرتعاً للعبث والتآمر، وأصبح يواجهنا أو ننتظر مصيرا غامضا ربما يهدد القنوات الفضائية، وبالأحرى البرامج الرياضية التى انتشرت وتوحشت، وأصبح تأثيرها كبيراً أو قل أصبحت المؤثر الأول للشعب المصرى، بل والشعب العربى بأجمعه.. وأزعم أن المشاهدة والالتفاف حول تلك البرامج الرياضية، ليست لجودة المعروض، أو الحالة المعرفية الكبرى للسادة النجوم مقدمى البرامج، بل تعود المشاهدة طبقاً لنظرية السوق الاقتصادية التى تؤكد «حسن السوق.. ولا جودة البضاعة».. لأن كرة القدم ذلك المنتج المؤثر، أصبح هو العلاج الشافى الحقيقى لأوجاع الشعب العربى، بعد حالة التدنى والضعف والتردى التى أصابت الأمة العربية فى السنوات العشر الأخيرة.. أو بمعنى أوضح عقب الاحتلال الأمريكى للعراق، وشيوع الفتنة الطائفية بين الفصائل العراقية المختلفة.. ولأننا فقدنا أى مشروع قومى تلتف حوله الأمة، فقد حلت لعبة كرة القدم، وأصبحت هى المشروع الكبير الذى وجدته الشعوب حلاً لضالتها وعلاجاً لأوجاعها.. وبالطبع ساد الإحباط الشعب العربى بأكمله، ولأنهم المصريون، فكان هذا الإحباط أكثر تأثيراً.. فذهبت حشود كبيرة، واختبأت تحت عباية كرة القدم، ووجدتها الحكومة المصرية فرصة سانحة لكى تهرب من مسئوليتها التى لم تعد قادرة على تحملها، فاهتمت بتلك اللعبة، حتى أنها لم تحاسب جموع الفاسدين الذين أكلوا أموال أعضاء الجمعية العمومية فى الأندية تحت شعار، أن كرة القدم هى الملهاة الحقيقية للشعب المصرى، وإذا طمع أو كبش أحد من مسئوليها، فليست أزمة أو مشكلة، وعودوا قليلاً إلى الوراء وأنظروا إلى حجم البلاغات والاتهامات الواضحة التى وجهت إلى أعضاء مجلس إدارة الزمالك السابق.. وهناك قضايا كثيرة لم يعلن عنها فى أندية أخرى كبرى، وماتت ودفنت ووئدت، لأن المتهمين فيها يلعبون أدواراً مهمة فى إلهاء هذا الشعب المغلوب على أمره.. ناهيك عن أن كرة القدم أضاعت أو أضعفت الأحزاب المصرية المختلفة التى لو وجدت دعماً أو نصف الدعم الحكومى لكرة القدم، لتبدلت الأحوال السياسية وأصبحنا نمتلك أحزاباً حقيقية، تستطيع أن تواجه وتسقط الحكومات المتردية التى حملت راية المواطنين، واستطاعت إسقاط تلك الراية أو الرايات بنجاح منقطع النظير..
وأزعم أن كرة القدم أخذت نصيبا كبيرا من المحبطين والجزء الثانى أو الآخر هرب فى عباءة الإرهاب الدينى، الذى بات يهدد بإطفاء بقايا شعاع النور الذى تتمسك به الأقلية المستنيرة من المجتمع العربى، آملين أن ينتصروا على هؤلاء الظلاميين.
عموماً أزعم أن مباراة مصر والجزائر فى التصفيات المؤهلة لكأس العالم بجنوب أفريقيا، تكشف لنا حجم الضعف والسقوط فى فخ الانتقادات المجانية.
والتنظير الجاهل الذى قدم فيه بعض مقدمى البرامج وجبات دسمة من الجهل المطلق، آذى مسامعنا طوال ثلاثة أسابيع، قبل المباراة التى أصبحت صعبة على الجميع، بعد أن تم إشعال كل النيران فى العلاقات بين الشعبين الكبيرين.. ولم يكتف هؤلاء الجهلاء فى الشاشات أو الفضائيات الاستهلاكية، فالبعض لبس ثوب الخبير الأمنى مثلا وأطلق لسانه وتصريحاته، وفتاواه لإعطاء روشتة أمينة وأمنية فى كيفية التعامل مع الجماهير فى هذه المباراة، وبالطبع ظهرت حالات الضعف القصوى، وكانت الفتاوى أميل أن يدخل كل مواطن مصرى إلى استاد القاهرة بالبطاقة الشخصية تخيلوا.. القوى السياسية فى مصر تبحث عن الحريات، وفك قيود المواطن، وإلغاء القوانين المقيدة للحريات، وهؤلاء العابثون يريدون أن يظهر المواطن بطاقته الشخصية لكى يشاهد مباراة فى كرة القدم، ولأنهم حقاً خبراء أمن كبار، فذهبوا يؤكدون جهلهم ويطالبون بأنه لا حق لمواطن فى شراء أو اقتناء تذكرة إلا بالبطاقة أيضاً، وتكون طبعاً «رقم قومى» وطبقاً لتحليلات هؤلاء الجهلاء خوفاً من أن يدخل الشعب الجزائرى ويشترى تذاكر المباراة وبالتالى يكون الأغلبية فى ستاد القاهرة.
آه والله بقت فى القاهرة والجماهير الجزائرية ستبقى الأكثرية.. وأظهرت هذه المباراة أيضاً أننا لا نملك حاضراً نتكلم عنه، فقد حاول البعض رأب الصدع، وحاولوا أن يظهروا أو يلبسوا ثوب خبراء التاريخ، فلم يجدوا إلا أن يعودوا إلى الوراء ووجهوا عبارات المعايرة، بأننا ناصرنا الثورة الجزائرية واحتضنا الزعيم أحمد بن بيلا وأرسلنا مدرسى اللغة العربية لكى نطرد اللغة الفرنسية فى الجزائر، وأخذنا نتغنى بفيلم المناضلة جميلة بوحريد، وحاول هؤلاء الفضائيون الجهلاء الذين يؤكدون للشعب الجزائرى أننا أصحاب فضل عليهم، ونسوا أننا أصحاب مصلحة مشتركة معهم، وبالطبع رد جهلاء آخرون فى الجزائر، وبدأوا يؤكدون أنهم أرسلوا أهم لواء فى حرب أكتوبر وظلت حرب خبراء التاريخ إلى أن بدأت المباراة.
وأكدت أيضا حالة الهوس والتطرف الذى نعيشه الآن، إننا لا نملك فنوناً جديدة أو أغانى كروية «وطنية سابقاً» ولذا فقد حولنا كل أغانى المناسبات الوطنية التى بنت ورسخت أسسنا المصرية، وعادت المطربة الكبيرة شادية مرة أخرى إلى الأضواء بأغنيتها الكبيرة «يا حبيبتى يا مصر»، وعادت «يا أغلى اسم فى الوجود» وسمعنا هتافات الله أكبر وحتى أغنية صورة.. صورة كلنا كده عايزين صورة عادت مرة أخرى فى الزحام، ويبدو أن بعض القائمين استشعروا أن مصر القديمة أو مصر الستينيات مازالت تحكم بأغانيها وتاريخها الطويل. ويبدو أن كرة القدم أصبحت صاحبة فضل كبير على تلك الأغانى، التى أصبح مكانها فى الأرشيف التليفزيونى، وجاءت كرة القدم لتعيدها إلى الأذهان مرة أخرى.. ويبدو أن تلك الأغانى العظيمة قد تضاءل مقاسها وأصبحت على قدر كرة القدم فقط، بعدما مات الحلم العربى، وأصبحت حرب أكتوبر آخر الحروب، كما أكد الزعيم الراحل أنور السادات.
ولأنها الأغانى الملهمة للشعب المصرى، فقد ظهرت أعلام مصر عالية ترفرف ولكن فى كرة القدم فقط.. ولم تعد ترى العلم المصرى فى أى محافل دولية سوى فى الرياضة فقط، بعد أن تدهور العلم وتاه العلماء.. وعموماً فكرة القدم المتطرفة أعادت الأعلام مرة أخرى.. وأعادت معها أغنياء الحرب الذين تعاقدوا خلال الشهور الثلاثة الماضية على ما يقرب من مليون علم، جزء صغير تم تصنيعه محلياً والأكثرية جاءت من دولة الصين كالعادة..
ولكن هل الأغانى والأعلام المرفوعة تعنى كما أكد جهلاء الفضائيات الاستهلاكية والذين دوشوا رؤوسنا بأنهم أكبر ناس بتحب مصر وتنتمى إليها، وإنما ما هم فيه ما هو إلى حالة انتماء.. وأقول إن ما نحن فيه لا علاقة له بالانتماء، هو هوس والتفاف كاذب مضيعة للوقت والبحث عن فرصة أو سعادة، حتى لو جاءت بأقدام لاعبى كرة القدم، لأن الانتماء مسئولية وسلوك ومثابرة وكفاح وتضحية وإنكار ذات وقيمة وقدوة، ولكن ما نحن فيه هروب من واقع أليم.
محاولات مستميتة لكسر حالات الإحباط الشعبى أو الهروب من الأزمة اليومية الطاحنة التى تتعرض لها الأسرة المصرية، حتى أننى سألت إحدى الأسر القريبة جداً منى والتى اتفقت على أن نشاهد مباراة كرة القدم معاً حول غداءات المحاشى المتنوعة فقالوا جميعاً.. أهى فرصة نشوف حاجة جديدة.. يعنى إحنا بنفهم إيه فى كرة القدم.. طلبنا ننسى ولو قليلا الحياة الصعبة وأنفلونزا الخنازير والمضحك أن هذه الأسر أحضرت لأولادها أعلام مصر، وقبعات كبيرة وعللوا ذلك بأن أولادهم يريدون أن يشعروا وكأنهم فى ستاد القاهرة..
ولذا فأرى أن كرة القدم المتطرفة، تصبح المشروع الأوحد فى مصر والتطرف الدينى وجهان لعملة واحدة.. ولا تنسوا أن تجمعات كرة القدم بالآلاف، يعنى أنهم إذا انقلبوا أصبحوا قوى حقيقية ربما تهز وتحرك الفوضى التى باتت أو أوشكت على الانفجار.
وعموماً هذه بعض سطور فى التأمل والألم ربما جاءت صادمة.. كئيبة.. محزنة.. مخزية ولكنها الحقيقة التى دوماً تعرى وتكشف وتسقط الأقنعة الزائفة، ربما تجعلنا نعود مرة أخرى لأيام كنا فيها نفعل ونعمل أولاً، ثم نتكلم ثانياً، أو كما يقولون ضجيج بلا طحين.. ولكننا نأمل أن ينتهى هذا الضجيج ويأتى يوماً وقت الزرع حتى يكون الطحين حقيقة.
جمال العاصى
الانتماء الهلامى وأوهام الأغانى الكروية الوطنية وخبراء الأمن
الخميس، 19 نوفمبر 2009 10:30 م
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة