لو كانت مباراة مصر والجزائر امتحاناً، لرسب فيه كثيرون، لا يشفع هنا القول إن اللحظة كانت استثنائية وبالتالى فالخروج عن حدود التفاعل المعقول مع الحدث أمر وارد، كلا اللحظة كانت هستيرية بكل المقاييس، وهستيريتها ليست ناجمة عن استثنائيتها بقدر ما هى نتاج عقل عربى يبرع فى توليد الأزمات قبل أن نهتف بنصر أو ننفعل أمام هزيمة، ثمة حقيقة ينبغى الوقوف عندها: نحن بكل بساطة، لا نتقن إدارة مباراة كرة قدم! فى المقابل، أثبتنا وبالدليل القاطع، أننا نجيد لعبة الهروب إلى الأمام حين يكون الحاضر ثقيلاً، وأننا نحترف خوض مواجهات وهمية متى كانت معاركنا الحقيقية خاسرة، لكن فلندع ذلك جانباً، فلنتحدث قليلاً عن الإعلام بصفته أبرز الراسبين فى امتحان الموقعة الكروية الضروس.
من اللافت فعلاً أن يذهب "رموز" إعلاميون ومؤسسات إعلامية بأسرها فى كلا البلدين إلى حد التماهى مع أقل فئات الجمهور وعياً، لقد بلغت الرغبة فى ركوب موجة الإثارة حد التخلى عن أبجديات الصحافة والتنكر لأبسط ضوابطها، بل إن الأمر تجاوز التماهى فى بعض الأحيان ليصل بمن يفترض بهم أن يكونوا نتاج ثقافة التعقل فى التعاطى مع الخبر، إلى حد تسيد التيار الغريزى الجارف فى الشارع، لقد شهدنا فى الأيام الأخيرة أساليب من التعميم والتنميط والإسقاط التى كادت لا توفر صحيفة أو قناة تلفزيونية فى البلدين، وفى لحظة الجنون هذه، لم يعد مستغرباً مثلاً حديث إحدى الصحف الجزائرية عن أعداد من الضحايا الجزائريين الذين سقطوا فى شوارع القاهرة، منفلتة بذلك من حس الرقابة الذاتية على صحة الخبر، الذى تم نفيه رسمياً فى ما بعد، ولا عاد منبوذاً تكرار أحد الإعلاميين المصريين البارزين رغبته الجامحة برؤية الجماهير الجزائرية كسيرة، وتأكيده أن الرغبة تلك تتجاوز تتوقه لرؤية المنتخب المصرى فائزاً فى المباراة، هكذا تحولت "السلطة الرابعة" بسرعة قياسية، إلى مؤجج منتظم لمشاعر جمعية، رأت فى لعبة المستطيل الأخضر مكاناً مناسباً لإفراغ شحناتها النفسية وإحباطاتها السياسية والاجتماعية والمعيشية، وبات عدد من أبطال الشاشات أو المساحات الورقية يجاهدون لمراكمة رصيد إضافى فى شعبيتهم، ولا يبخلون قى سبيل ذلك بما جادت به قواميس الانفعال والافتعال وسعة الخيال، وأضحى معيار النجاح لهذا الكاتب أو ذاك المذيع يتمثل بمدى انسجامه مع ديماغوجيا عامة، قادرة على دوس منطق هنا وسحق عقلانية هناك.
المهم كان، وقبل كل شىء، خوض المعركة المتصورة بنجاح موهوم، وما مد آلات الإعلام بالوقود اللازم للسير قدماً فى غزوها لصورة وسمعة "العدو الشقيق"، هى قابلية التشنج الهائلة التى ميزت الجمهوريين، نتيجة أسباب لا مجال لعدها أو حصرها الآن، وهى التى ترتبط بضغوط معيشية أو اجتماعية أو سياسية، كما ذكرنا، وعلى مستوى آخر، كان لحماسة بعض الطاقم السياسى فى كلا البلدين لاستثمار هذه المناسبة، دور فى تغطية الجنوح الإعلامى وإسباغ الشرعية "الوطنية" على تجاوزاته. وما كان ينقص البعد "الوطنى" إلا مكمله "الدينى" حتى كادت الموقعة – الرياضية ليس إلا – تتحول إلى ما يشبه نزاعاً، طرفاه يتنافسان فى القدرة على إثبات مزاياهما الإيمانية، وعلى إيصال دعائهما إلى الملائكة وأبواب السماء.
من موقع إعلامى، أرى أن الواجب يقتضى إدانة سلوك جيّش مشاعر ووظفها فى ما لا يفيد أى مصلحة عامة من قريب أو بعيد، ومن موقع تجربتى الشخصية أقول: لقد توقفت عن تشجيع فرق كرة السلة فى لبنان لحظة أصبح كل فريق يعيش فى كنف انتماء طائفى وأسير روابط قبلية شبيهة بالتى أشير إليها أعلاه، ومن موقع عربى أضيف: أى من الفريقين يمثلنى فى كأس العالم، لكنى لا أعود معنياً بالأمر حين نثبت كشعوب عربية، مرة تلو مرة، أن القبلية الجاهلية قدرنا، وأننا مجرد كرة.. تتقاذفها الأقدام.. لا أكثر..
إعلامى لبنانى
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة