أكتب هذه السطور فى طريق العودة من استاد القاهرة الدولى بعد أن انتهت للتو مباراة مصر والجزائر فلا تتوقعوا أننا سنقترب كثيراً من المنطق، وأكتبها فى كرة القدم فلا تتوقعوا أننا سنبتعد كثيراً عن السياسة.
عندما يحرز فريق هدفين أحدهما عند رأس البداية والآخر عند ذيل النهاية فاعلم أن جمهوراً ضخماً كان له دور رائع فى دفع الفريق إلى هذه النتيجة. لقد شاهدت مباريات لا حصر لها فى أوروبا وفى مصر، لكننى لم أشهد جمهوراً يقف على قدميه من الدقيقة الأولى حتى الدقيقة الأخيرة ولا يكل ولا يمل من الهتاف والغناء والتطبيل والتصفيق والتصفير مثلما حدث فى هذه المباراة. والأهم بين هذا كله هو ذلك الإبداع الفريد الذى يتميز به المصريون فى تأليف الهتاف المناسب للحظة المناسبة.
انتهى الوقت الأصلى للمباراة واستعد الجمهور الذى لم تفتر حماسته بعد كى يتقبل نفسياً بعد دقائق قليلة نصراً بطعم الهزيمة، واستعد رجال الأمن لاحتمال ليلة ليلاء، واستعد الأشقاء الجزائريون للاحتفال بوصولهم إلى جنوب أفريقيا، ثم فجأة يهبط الوحى على مواطن مصرى أعتقد أنه كان عن يميننا فى مدرجات الدرجة الثالثة خلف مرمى مصر فيطلق نداءً عاجلاً فى صورة كلمتين فى منتهى البساطة. تحولت الكلمتان تدريجياً إلى هتاف انتقل رويداً رويداً حتى وصل إلينا واستمر فى الدوران حتى غطى الاستاد الذى امتلأ بما لا يقل عن مائة ألف روح: «كاااس العااالم.. كاااس العااالم.. كاااس العااالم».
كانت هذه ببساطة آخر دفقة لدى شعب أحس أنه بذل كل ما لديه على مدى شهر عصيب جاء فى عقب شهور صعبة جاءت فى أعقاب سنوات محبطة على طريق الوصول إلى كأس العالم. وكانت هذه الدفقة الأخيرة ببساطة أشبه بحلاوة الروح وأقرب إلى إعلان تبرئة ذمة فى لحظة فراق. إن كان رجال مصر فى أرض الميدان يحتاجون إلى تذكِرة فيما تبقى من دقائق فلتكن هذه واضحة ومقتضبة وليكن الله معنا جميعاً كما قال عبدالناصر مختتماً خطاب التنحى. وما هو عبقرى فى هتاف كهذا أنه أولاً هتافٌ ينم عن وعى فطرى بما تتطلبه اللحظة، وثانياً أنه إيجابى يتناول النفس دفعاً ولا يتناول الخصم جذباً.
دع عنك يوفوريا هدف ألقانا على الطريق إلى أم درمان علها إن شاء الله أن تلقينا إلى جوهانسبيرج إن كنا نستحق، فقد كان مبلغ سعادتى أن أخرج مع أصدقائى وأبناء وطنى وأنا أشعر بالفخر بأن تلك الدفقة الأخيرة خرجت من عقولنا إلى أنفسنا دون المرور بالخصم، خاصةً أنه أخٌ لنا فى الدم. هؤلاء منا المهتمون بالتاريخ يعلمون أن بداية الهزيمة فى أى ميدان هى حين يعمد المرء إلى النظر إلى الآخر مفتشاً فى عيوبه كى يهدمه بدلاً من أن يركز جهده على شخصه مفتشاً فى طاقاته كى يبنى نفسه.
الآن صار الطريق إلى أم درمان أكثر إشراقاً، لا لأن إخوتنا الجزائريين خسروا جهود حارس مرماهم الأول ولا لأنهم قد يشعرون ببعض الإحباط ولا لأن السودان أقرب إلينا منهم جغرافياً وتاريخياً وسياسياً واجتماعياً. ليس تماماً لهذا كله، ولا حتى لأن وائل جمعة وحسنى عبدربه سيُتاحان مرة أخرى أمام بدائل حسن شحاتة، بل لأننا أثبتنا لأنفسنا أننا لا نزال قادرين على التفكير بصورة إيجابية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة