لقد خلق الله عز وجل الإنسان ملولا وعجولا، يمل النعم إذا طالت عليه، ويمل الشقاء إذا طال به، يمل الشتاء إذا دام، يمل الحر إذا طال، يمل طيب الطعام إذا استمر عليه، ويمل الطعام الخسيس إذا أيضا استمر عليه، وقد مل بنو إسرائيل أكل المن والسلوى، إذ قالوا "لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك أن يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وثومها وعدسها وبصلها"، ولا نعرف لماذا لامهم موسى عليه السلام فى ذلك، وإن كان الملل طبيعى عند الإنسان، ربما كان اللوم منشأة صيغة الطلب إذ كانت مذمومة (فادع لنا ربك).... !!! و ليست الصيغة التى كانت يجب أن تصدر من المتبوع لتابعه.
لذا نجد الإنسان قد استعان على درء الملل بالتنويع والتنقل والتغيير، حتى وإن كان من حسن إلى ردىء، فقد نرى من يشتهى أتفه الطعام بجانب أطيبه، والبعض يقصد الرحلات الخلوية مع الطبيعة هربا من القصور الشامخة والأبنية المشيدة، وقد روعى هذا فى برامج التعليم والتدريب: فدرس رياضيات بعد درس لغة إنجليزية، ودرس فى إدارة الأعمال بعد درس فى الإحصاء ، وهكذا دفعا للملل من الدرس أو المدرس، هذا وأننا نرى ذلك أيضا فى برامج الحياة عامة: لعب بعد عمل، ومزاح بعد جد، فرح بعد ضيق، وحتى الطبيعة قد راعت فى برنامجها هذا التغيير: كالليل والنهار، والبرد والحر، وضوء الشمس وضوء القمر، وهكذا ولولا هذا التناغم العجيب الذى يتعاقب على الإنسان لضاق الناس مللا لا يطاق، ولكانت الحياة عبئا ثقيلا لا يحتمله الإنسان، ولفر الناس من الحياة إلى الموت طلبا للتغيير والتنويع.
فقد ظن الناس أن الراحة الانغماس فى الكسل، والإضراب عن العمل، والتمدد على سرير مريح، أو الاتكاء على كرسى مريح، وليس هذا أيضا بصحيح دائما، إنما الراحة فى التغيير من حال إلى حال، من عمل إلى لا عمل، و من لا عمل إلى عمل، فما أحلى النوم بعد التعب، وما أحلى اليقظة بعد النوم، ونجد فى الجلوس راحة بعد إطالة الوقوف، وفى الوقوف راحة بعدما طال الجلوس، وفى الفراغ راحة بعد طول العمل، وفى العمل راحة بعد طول الفراغ هكذا يكون نظام الحياة الملل من الدوام، والراحة فى التغيير.
إن أقدر الناس فى هذه الحياة من استطاعوا أن يتغلبوا على الملل والسأم بالتغيير المناسب فى نفسه وغيره، وليس خفى عن أحد أن الأديب القدير من استطاع أن ينوع نفسه وينوع كتابته، وكذلك الممثل القدير من استطاع أن ينوع فى الأدوار التى يقدمها لجمهوره وإلا كان ملولا، وخير البرامج التى نشاهدها الآن على الفضائيات ما استطاعت أن تجدد نفسها من حين إلى آخر تجديدا يتفق ومنفعة الناس ويتفق مع قواعد الرقى، وخير القادة من استطاع أن يجدد فى دعوته، فإن كان له مبدأ واحد مثلا يدعو إليه استطاع أن يبرزه كل يوم أو كل فترة فى شكل جديد يلفت النظر إليه، ويبعث فيه النشاط والحركة.
وأننى أجد كثيرا من شرور هذا العالم سببه الملل، فكسل الطالب وانصرافه عن الدرس نوع من الملل، وكسل الموظف وقعوده عن الجد فى العمل نوع من الملل والسأم، والخمود السياسى والفكرى والاجتماعى أيضا نوع من الملل. وفى أغلب الأحيان ما يكون الميل إلى الكهوف والإدمان عليها نوعا أيضا من الملل، وكثيرا ما يكون الشقاق العائلى والمعاناة الأسرية والمشادة بين الزوجين أحيانا والأبوين وأولدهما تكون أحيانا كثيرة تعبيرا عن نوع من الملل.
من أجل هذا كله أصبحت الحياة فنا يجب أن يدرس ويتعلم، حتى كل شىء إذا ما ارتقى وتعقد أصبح فنا أوجب دراسته، ثم أصبحت التربية فنا أوجب أن يدرس بعدما كان الأبناء تربى من قبل أمهاتهن وآبائهن حسبما اتفق، كذلك فإن الحياة نفسها نحياها الآن حيثما اتفق، ولكنها تعقدت وأصبحت بحاجة إلى العديد من الدراسات. وحتى حياتنا الأسرية نطالب فيها المرأة أن تتجدد فى بيتها حتى لا يمل زوجها، والزوج يتجدد حتى لا تمل زوجته، والمدرس يتجدد حتى لا يمل طلبته، ورئيس الحزب يتجدد حتى لا يمل تابعوه، والوزير يتجدد حتى لا يسأم منه مرؤوسيه، وإن كان التغلب على الملل والسأم ليس من الأمور الهينة، وليس كل تغيير يصلح لإزالة السأم أو الملل، فدائما سوف يصلح التغيير عندما ندرس النفس ونوع التغيير، وحسبما نقوم بدراسة المرض نقوم أيضا بدراسة نوع العلاج، ليكون فى النهاية الدواء طبقا للداء.
على جمال الدين ناصف يكتب: لا راحة إلا فى التغيير
الأربعاء، 07 أكتوبر 2009 04:51 م
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة