«يا لهؤلاء المصريين الفقراء الأغبياء! يعبرون قناة السويس ثم تُنسف الجسور من ورائهم. لابد أن السوريين يهرولون الآن فراراً، أليس كذلك؟». هكذا بلغت قمة «التعاطف» الأمريكى معنا فى خضم أشرف حرب فى التاريخ العربى الحديث على لسان الرئيس ريتشارد نيكسون أثناء اتصال هاتفى له مع وزير خارجيته، هنرى كيسينجر، فى ثانى أيام الحرب التى وقعت أحداثها المجيدة فى مثل هذه الأيام قبل ستة وثلاثين عاماً. رد عليه هذا: «كلا! السوريون سيتحولون إلى ديك رومى بحلول الأربعاء (10 أكتوبر)».
لم يكونوا قد أفاقوا بعد من صدمة المفاجأة: أن المصريين، مع إخوانهم فى سوريا، «تجرأوا» ضد كل قوانين الطبيعة على اتخاذ زمام المبادرة لتحرير أراضيهم بينما فشلوا هم مع صنيعتهم، إسرائيل، ومع العالم كله، فى التقاط الإشارة وفى تفسير المقدمات رغم كل إمكاناتهم الاستخباراتية الفائقة. كان جرحاً نفسياً عميقاً فى التو واللحظة أن «يتطاول» عربى على الآلة الأمريكية، وعلى الصنيعة الأمريكية، أعمى بصرهم وبصيرتهم عن قراءة الواقع فى لحظات حاسمة، وتحول بصورة مباشرة إلى «إهانة شخصية» أن يبلغ العربى من الذكاء والإخلاص هذا الحد.
حتى مع نهاية اليوم الثالث، بتوقيت الساحل الشرقى للولايات المتحدة (أى بداية اليوم الرابع، 9 أكتوبر، بتوقيت سيناء والجولان)، «خلدنا إلى النوم ونحن نتوقع فى الصباح تكراراً لحرب الأيام الستة عام 1967» كما يقول كيسينجر الذى انفرد بإدارة الحرب على الجبهة الأمريكية بينما كان رئيسه غارقاً فى معجنة فضيحة ووترجيت، «لكنّ الأوهام تخدش كبرياء الآلهة، إنها تتأفف من تناول الأحداث الجسام على محمل البساطة».
فى الثانية إلا الربع صباحاً أيقظه السفير الإسرائيلى فى واشنطن. تساءل كيسينجر: ماذا يريد الآن وقد أرسلنا إليهم كل ما طلبوه من الذخيرة والمعدات الإلكترونية، حتى صواريخ سايدْوينديرز الحرارية؟ الآن، كانوا يستعجلون طائرات إف 4 فانتوم، درة سلاح الطيران الأمريكى آنذاك. عاد كيسينجر إلى النوم مؤمناً بأن ما لدى إسرائيل أكثر مما يكفى لسحق المصريين والسوريين وتلقينهم درساً يجعلهم «يركعون أمامنا استجداء لوقف إطلاق النار بحلول اليوم الخامس». لكنّ السفير الإسرائيلى أيقظه مرةً أخرى فى الثالثة صباحاً فهدّأ من روعه واتفق معه على لقاء فى البيت الأبيض فى الثامنة وعشرين دقيقة.
داخل «غرفة الخرائط» السرية فى الطابق الأرضى (حيث كان يتابع روزفلت مجريات الحرب العالمية الثانية) استمع كيسينجر إلى السفير الإسرائيلى والملحق العسكرى الإسرائيلى وهما يشرحان له لأول مرة مقدار «الكارثة غير المتوقعة». حتى تلك اللحظة كانت خسائر إسرائيل وفقاً لهما: 49 طائرة مقاتلة من بينها 14 طائرة فانتوم، و500 دبابة من بينها 400 على الجبهة المصرية وحدها. توسل السفير -وفقاً لكيسينجر- أن تبقى هذه الأرقام سرية إلا عن الرئيس خوفا «أن تنضم الدول العربية الأخرى إذا علمت بذلك لتوجيه ضربة قاضية».
طلب الملحق العسكرى الإسرائيلى معلومات استخباراتية. التفت كيسينجر إلى أحد مساعديه بهذا الأمر: «أعطهم كل فسفوسة معلومة لدينا». وفى السادسة وعشر دقائق مساءً صدّق الرئيس الأمريكى على قائمة الطلبات الإسرائيلية كلها من أولها إلى آخرها بما فيها تعويض جميع الطائرات المقاتلة (بعضها بأحدث طراز من الفانتوم) وجميع الدبابات (بعضها بأحدث طراز إم 60).
كانت تلك لحظة أراد هنرى كيسينجر أن يبدأ منها ما يوصف اليوم بسلام الشرق الأوسط. أخيراً يجد الآن وقتاً للرد على رسالة حافظ إسماعيل، مستشار الرئيس المصرى للأمن القومى: «يود الجانب الأمريكى أن يؤكد على استعداده لبدء مشاورات عاجلة مع الأطراف المعنية من أجل تحقيق تسوية سلمية عادلة فى الشرق الأوسط. وسط هذه الصعاب من المهم أن نحتفظ بمنظور المدى البعيد فى أذهاننا وأن نتجنب المواجهات والجدل المرير بينما نسعى إلى حل الأزمة الراهنة».
تبقى هذه اللغة معنا حتى اليوم، ويبقى السلام «عملية سلام»، لكنّ أرضنا تعود لنا لأننا جلسنا على مائدة المفاوضات وفى ملفاتنا دماء شهدائنا وبسالة أبطالنا وإخلاص قادتنا وإيمان شعبنا بالحق والإرادة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة