من يشعر فى هذا العنوان بنعومة فليواصل القراءة، فأنت حر فيما تختار، لكنك غير قادر على التحكم فى حاسة الشم ـ إن كان الله قد أنعم بها عليك ـ فكيف تقاوم عطر الياسمين مثلا وهو يلفح وجهك مع هواء خفيف؟! كيف لا تستمتع بذاك الخليط العجيب من الروائح فى الصابون؟ ـ لا أقصد مدام بومبادور بالطبع ـ أنا عن نفسى سعيد للغاية بالروائح الجميلة التى انتشرت فى مصر مع انتشار محلات "الريحة التركيب"، ذلك الاختراع العظيم الذى جعل الشباب فى مصر يسيرون فى الشوارع وخلفهم تلك العطور المتنوعة، والذى جعل للبنات روحاً جديدة يتركنها فى الجو حتى وإن قفزت الواحدة منهن فى خجل أنثوى لتركب المينى باص.
جنيهات قليلة وتمتلك أفخر أنواع البارفانات العالمية ويدخل قاموس حياتك من حيث لا تدرى أسماء عطور فرنسية وأسبانية.
والرائحة هى المكان واللحظة التى تسكن الروح، فقد تحبها وتسير معها على كوبرى قصر النيل وتحذرك من الإفراط فى تناول القهوة "علشان صحتك" ثم تتوها من بعضكما فى زحام الحياة، وقد تتزوج هى دون أن تطلق اسمك على أحد أبنائها، لكنك فى لحظة واحدة ستراها بجوارك، فهاهو عطرها القديم يمر كنسمة تفتح باب ذكريات قديمة.
وأحيانا نشم رائحة الأحبة فى كف اليد أو فى الهواء فنظل نطاردها بكل الحواس ربما نمسك بها، ولأجسادنا روائح، حتى ماء الرجل وماء المرأة لهما رائحة تظل خاصة بكل منهما حتى الموت.
والأدباء والفنانون والمجانين والعباقرة انشغلوا بالراوائح وكتبوا عشرات الأعمال عنها، فالروائح ليست طيبة كلها، فهناك رائحة الخيانة والغدر والكراهية والعفن، وفى سوق شعبى فقير جلست سيدة تبيع الأسماك وتنظفها للزبائن وفجأة تألمت وراحت تصرخ وتعض الأرض حتى انزلق من بين فخذيها طفل راح يعوم وسط أمعاء الأسماك ومصارين القراميط المخلوطة بالدم، وظلت الرائحة الغريبة تسكنه فهى شهقات الميلاد التى لم يعرف غيرها من الحياة، وقضى العمر يلهث وراء حاسة الشم، يريد أن يعتصر الأشياء ويقطرها، فليس لأى شىء معنى سوى بالرائحة، أما الكرامة والفضيلة والنبل والاخلاق فلا رائحة لها، إنه بطل رواية "العطر" للألمانى باتريك زوسكيند، فقد أصابته حمى الشم ومتعته مع النساء لا تهدأ إلا وهو يقتلهن بحثاً عن الرائحة التى تسكن أجسادهن فكان مجرما وسفاحا ومجنونا وحيواناً أيضاً.
وكان الكاتب جيوفانى أربينو مجهولاً قبل أن يكتب روايته "عطر امرأة"، وقبل أن يتحمس لها المخرج العبقرى مارتن بروست ليعرف العالم كله ممثلا مرعباً اسمه "آل باتشينو" بعد حصوله على الأوسكار عن دوره فى هذا الفيلم.
والرائحة هى التعبير عن الجنس فى عالم الكلاب وكثير غيرها من الحيوانات، فلا يثار الكلب ولا يفكر فى الجنس أصلاً إلا إذا أطلقت "الكلبة" ريحاً معيناً معجونا بنار الحب والرغبة واللوعة، ولم يكتشف العلماء ذلك إلا بعد أن دفع أحدهم الثمن غاليا، فقد عكف فى معمله يحلل تلك الرائحة، وعندما خرج ظلت الرائحة ملتصقة بملابسه فلاحقته عشرات الكلاب فى مشهد سينمائى غارق فى الكوميديا.
وجميعنا يعرف حديث النبى "ص"عن المرأة المتعطرة التى تخرج من بيتها بما يثير الرجال، وهو حديث صحيح حسن، فهناك كثيرات يتعطرن ليثرن الشهوات برائحة نفاذة يرسلن من خلالها إشارات "قبيحة"!، وهو تقليد غريب لأسلوب "الكلبة" المذكورة أعلاه، على أننا "بشر" ولسنا "كلاباً" وليس من الحكمة التفكير فى "كلبة"!.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة