فى عامه الرابع والسبعين يبدو الرئيس الفلسطينى محمود عباس يعيش أسوأ أيامه بسبب تأجيل عرض تقرير القاضى الدولى جولدستون عن حرب غزة على مجلس حقوق الإنسان، فقد طالت سهام النقد أبو مازن ليس فقط من خصومه السياسيين وإنما امتدت إلى أقرب حلفائه وأعضاء حركة فتح التى يترأسها منذ رحيل الرئيس الفلسطينى ياسر عرفات.
فى سيرة أبو مازن السياسية الكثير من المحطات الصعبة جدا، أولها حين قاد مفاوضات سرية انتهت باتفاق أوسلو الذى يعتبر أبو مازن عرابة الأول، وتحمله الكثير من الفصائل مسئولية هذا الاتفاق الذى انتهى إلى سلطة محدودة الصلاحيات وإن كنت أرى أن ما تحقق من أوسلو على الأرض أكبر من خسائرها حتى الآن.
لكن الانخراط فى قنوات المفاوضات السرية لم يكن أهم ورطات أبو مازن، ولا حتى خلافه ونزاعه مع الرئيس الفلسطينى الراحل عرفات حول صلاحياته كرئيس لوزراء فلسطين مما دعاه لاستقالة كادت تنهى مسيرته السياسية، لولا وفاة أبو عمار التى تتحدث تقارير إسرائيلية عن ضلوع أبو مازن فيها لكنها تظل تقارير مخابراتية غير مؤكدة.. وهو نفس الموقف الصعب الذى عاشه أبو مازن خلال حرب غزة.. مع سلطة حماس المختلف معها ومع شعب هو رئيسه يذبح بدم باردة، كما أن اتهامات الخصوم لأبو مازن بتشجيع إسرائيل على ضرب غزة ليست أكثر من تقارير إسرائيلية أيضا.
وفى كل هذه الأزمات والمواقف الصعبة كان لدى أبو مازن ما يدافع به عن نفسه، لكن تأجيل عرض تقرير جولدستون بطلب من السلطة الفلسطينية، هو هدية مجانية من الرئيس الفلسطينى لكل خصومه لذبحه بمنتهى السهولة.. وأيا كانت الأسباب والتبريرات التى ساقها حتى الآن فإن أبو مازن وضع نفسه على المذبح لكل من يريد أن يستل سكينه ويطعن بها رئيس السلطة الفلسطينية.
تقرير جولدستون وغيره من التقارير الدولية التى أدانت إسرائيل فى حرب غزة، حملت فى نفس الوقت إدانة لحركة حماس، وإحالة التقرير إلى محكمة الجنايات الدولية لو واصل رحلته عبر مجلس الأمن كان سيتبعه تحقيقا دوليا فيما قامت به إسرائيل وحماس وكان سيؤدى إلى إدانة الطرفين معا.. وبلغة المصالح السياسية كان سهلا على أبو مازن دعم هذا القرار حتى النهاية ليزيد من الضغوط الدولية على حركة حماس أشد خصومه.. لكنه لم يفعل.
وفى التبريرات يقول الرئيس الفلسطينى إن التأجيل هو مطلب دولى وافقت عليه الدول العربية والإسلامية، ولم يكن طلبا من السلطة كما يقال، ويبدو فى ضوء المتاح من المعلومات المؤكدة وليس الاجتهادات الصحفية والسياسية حتى الآن؛ أن هذا التحرك استهدف تخفيف الضغوط على الإدارة الأمريكية الراغبة فى البدء فى مباحثات سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين هدد نيتانياهو بوقفها لو مر التقرير داخل مجلس حقوق الإنسان.
ورغم أن السياسة هى فن الممكن، وإذا كانت المفاوضات ستفضى إلى دولة فلسطينية فى النهاية مما يستدعى تأجيل تحريك التقرير لتحقيق إنجاز سياسى على الأرض، فإن السياسة أيضا هى مكاسب وخسائر على الأرض، وفى تصورى أن خسائر أبو مازن من تأجيل عرض تقرير جولدستون على مجلس حقوق الإنسان أضعاف ما يمكن أن يحققه من مكاسب.
فإذا كان التأجيل لدفع مفاوضات السلام، فإن هذه المفاوضات لا تبدو فى الأفق رغم الحشد الدولى لبدئها، فقضية تجميد الاستيطان لا تزال عقدة تستعصى على الحل، وحتى لو بدأت المفاوضات فى ظل الحكومة اليمينية الإسرائيلية الحالية فإن حجم الإنجاز الفلسطينى المتوقع قد لا يكون مناسبا أو قريبا.
فى الوقت نفسه يغامر أبو مازن بدعمه التأجيل بمستقبل المصالحة الفلسطينية التى تحدد لها يوم 22 الجارى فى القاهرة.. وينتظر أن تفضى إلى انتخابات رئاسية وتشريعية فلسطينية جديدة قد يكون تقرير جولدستون هو محور حملتها الانتخابية، مما يعنى أن أبو مازن وحركة فتح سيدفعان ثمنا غاليا لتأجيل أقل ما يقال عنه إنه غباء سياسى.. وقد ينهى مسيرة أبو مازن السياسية والنضالية بعد أن منح خصومه حق القضاء عليه بلا ثمن تقريبا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة