24- فبراير- 1968 .. القاهرة
ملامح الناس تغيرت، الشوارع كما هى لكنها حزينة، الأسماء هى الأسماء لكنها فقدت الروح، كل شىء حولى أراه من نافذة الأتوبيس الذى وصل الآن بنا أنا وباقى الأسرى العائدين إلى قلب القاهرة.. كنا حوالى 40 رجلا ما بين ضابط وعسكرى.. آااااه الوضع لا يُبشر بخير أبدا، فنحن متجهون الآن إلى الكلية الحربية كما قيل لنا، وإن القائد أحمد إسماعيل عايز يشوفنا.. عادةً وفى وضع كهذا، يحاول القائد تقديم تفسير مقنع لما حدث للجنود، لكن ترى ماهو المبرر المقنع لهذه الهزيمة؟!
أبدو كالبرميل المنتفخ الذى أوشك على الانفجار رغم نحافة جسمى..
على باب الكلية كان فى انتظارنا ثلاثة ضباط وعدد من العساكر.. دخل كل منا باسمه وعند الباب خلعنا الساعات، صودرت الأشياء التى كانت بحوزتنا حتى مجموعة الأمواس التى كان الإسرائيليون يوزعونها علينا كل أسبوع من ماركات مختلفة.. آه آه آه.. أذكر أننى جمعت عددا منها وكأنها طوابع بريدية.. أخذوها، اتجهنا إلى قاعة تشبه قاعة الامتحانات.. طرابيزات.. كراسات إجابة.. أقلام جافة، والسؤال موحد ومفتوح: ما الذى حدث لك من أول الأسر إلى اليوم؟؟؟
لم أتمالك نفسى، فبعد كل هذا المشوار الطويل.. هذا العذاب أخضع لاستجواب بهذا الشكل المرهق، ليس فىّ عقل للكتابة، حتى الراحة لم أذقها بعد هذا المشوار.... وبمجرد وصولنا نخضع لهذا المجهود الذهنى المؤلم؟؟؟
(أنا مش حاتكلم ولا أكتب كلمة واحدة،، ماعنديش ثقة فى أى حد قدامى يا فندم) قلتها بصراحة مخلوطة بنكهة الألم للعقيد الواقف أمامى.
العقيد يرد على برفق (ليه كده يا ابنى، دا انتا فى بلدك).. قلت له بعصبية (معلش أنا عايز أقابل مدير المخابرات)
كأن رأسى قد تحجر ولم يعد على لسانى غير هذه العبارة لكل الرتب التى جائتنى بعد هذا العقيد.. أخرجونى من اللجنة بعد الضجة التى أحدثتها بعباراتى الثائرة وما هى إلا نصف ساعة حتى جائنى فى غرفة - أجلسونى فيها منفرداً- رجل هادئ النفس، حسن السمت، حازم الملامح، خاصة حاجبيه اللذين كأنما قد تجمع عليهما هموم هذا البلد فباتا علامة من علامات الزمن.. اقترب منى وقال بعد وقوفى احتراما له، فقد كان برتبة لواء (أنا مدير المخابرات يا أحمد، خير يا ابنى)..
التقط أنفاسى وهززت رأسى قائلاً (الموضوع كبير جداً يا فندم)
مدير المخابرات: خير يا أحمد فيه إيه؟؟
قلت: أنا عايز تفضولى اُوضة وتجيبولى واحد أمليه، لأن ماعرفش أفكر وأكتب فى وقت واحد، لغاية ما أفضى إللى فى دماغى كله..
باستغراب مشوب بأبوة حانية قال لى: حاضر يا ابنى
كان الكاتب يجىء كل يوم فى الـ9 صباحاً ويمشى فى الـ3 ظهراً.. كنتُ أنادم نفسى مع هذا الكاتب بكل ما حدث منذ أسرى وحتى عودتى..
استغرقت أربع أيام فى عصر ذاكرتى، مشهداً مشهداً، بكل ما فيها من شخوص وكلام ومكان وزمان..
وكنت إذا نسيت شيئأ ثم ذكرته أقول للكاتب "اكتب ملحوظة"...
كانت المقارنة تزعجنى لكنى لا أستطيع الهرب منها، بين ما شاهدته فى إسرائيل وبين ما أعيشه الآن بعد عودتتى.
زميلى فاروق الجابرى دفعتى فى الكلية الحربية وكان معايا فى المدرسة فى دمنهور، حدث وأن جلست معه ذات مرة، نادى عسكرى وطلب منه كوبين من الشاى.... وبعد غياب العسكرى حوالى لثلث ساعة، عاد وقال لنا (يا فندم مش عايزين يدونى لازم بونات).
وهنا صرخت فى وجه فاروق (شفت يا سى فاروق ده حاجة وسخه وتخلف، إسرائيل بقى غير كده.. الراجل يخبط على الباب ويدخل ويحط لك الشاى والقهوة والعصير من غير لا بونات ولا زفت...).
كنت حزيناً لقولى هذا، لكن هذا ما كنت أشعر به ساعتها.. كانت الأرض تميد بى كلما خضعت لمنطق المقارنة هذا، لكن لا فائدة لا أستطيع أ أنسى.
بهدوء مرّ أسبوع على عودتنا ونحن داخل الكلية الحربية وها نحن اليوم الخميس نتأهب لنزولنا إجازة فى المساء وليل القاهرة الساحر سنراه ونعيشه، علنا ننسى كل الألم التى رأيناها..
جاء القائد محمد فوزى خطب فينا خطبه من إياها.. الخطب الرنانة ثم أعطونا كل واحد عشرين جنيها وانطلقنا فى إجازتنا لمدة شهر، كان الأسبوع الأول منها رحلة جماعية لنا لأسوان وماجورها.. طبعاً كانت عملية فرفشة لينا.. ثم بعد هذا الأسبوع انطلق كل منا إلى غايته.. أهله وذويه.
عدت من أسوان إلى شقة ابن عمتى فى القاهرة، وكانت زوجتى مع بنتى ذات السنتين فى انتظارى هناك...
أقمنا معه، فقد كان بمثابة ولى أمرى.. وفى يوم كنتُ قد دعيته لأكلة سمك عند خال زوجتى الذى يسكن شارع الألفى والذى دعانى أنا وزوجتى وابنتى لقضاء اليوم معه، وما أن حضر ابن عمتى وكان وجهه شاحبا، حتى رمانى بعبارة بدت عادية فى مثل تلك الأيام (يا أحمد، الدنيا مقلوبة عليك.. عايزينك تاني، جُم وسابولك نمرة تليفون).... تناولتها وبكل امتثال اتجهت إلى التليفون...
دقائق وكانت سيارة الجيب تقف تحت العمارة فى انتظارى.
إلى اللقاء فى الجزء الخامس