لا يجب أن نحمّل تصريحات وزير الخارجية البريطانى الأسبق دافيد أوين حول حرب أكتوبر 73، أكثر مما تحتمل. فهناك الكثير من المصادر التاريخية الموثوقة التى تشير فى مجملها إلى "انتصار مكتمل الأركان" حققته القوات المسلحة المصرية على جيش الدفاع الإسرائيلى فى حرب أكتوبر 73. وأذكر من هذه المصادر تقرير لجنة إجرانات التى شكلتها إسرائيل فى أعقاب الحرب مباشرة للتحقيق فى أسباب الهزيمة، وتقارير كبار الضباط العاملين ضمن قوات حفظ السلام الدولية، وتقييمهم الميدانى للموقف على الأرض مع بدء مفاوضات الكيلو 101، وسجلات العمليات وأوضاع القوات فى منطقى الثغرة وشرق القناة، وفشل القوات الإسرائيلية فى احتلال السويس. وأخيرًا الشهادة التى أدلى بها أكبر مؤرخ عسكرى إسرائيلى، استغرقه الأمر 36 سنة كى يستوعب الحقيقة، ومفادها أن هزيمة نكراء قد لحقت بجيش الدفاع الإسرائيلى على يد القوات المسلحة المصرية فى أكتوبر 73. ناهيك عن المصادر المصرية والعربية، وأخص منا بالذكر كتاب المؤرخ الأستاذ الدكتور عبد العظيم رمضان، الحقيقة التاريخية حول حرب أكتوبر، وكتاب "محاربون ومفاوضون" لكمال حسن على، وأيضًا كتاب "مشاوير العمر" لنفس الكاتب، وكتاب "الطوفان"، للإعلامى الكبير حمدى الكنيسى، ومذكرات الفريق عبد الغنى الجمسى، وغيرها من المصادر.
وفى اعتقادى الشخصى، فإنه لا حاجة بنا إلى هذا أو ذلك لإثبات حقائق تاريخية لا جدال فيها. وأعتقد أن الأمر يتعلق برغبة عارمة فى سلب هذا الشعب واحدة من لحظات التفوق على الذات وإثبات القدرة ليس فقط على إيتان ما هو عادى ومسلّم به، بل تحقيق ما يقترب من المعجزة أو المستحيل فى ظل ظروف كانت هى الأسوء على الإطلاق، وهل هناك ما هو أسوء من مرارة الهزيمة، وذل الاحتلال وعاره.
ومما يثير الاستغراب، ذلك القصور الشديد الذى يشوب الأداء الإعلامى العربى فى تناوله لهذه المرحلة من تاريخ العرب الحديث. ويتحمل الإعلام المصرى الجزء الأكبر من هذا القصور. وهناك علامات استفهام حول تناول الإعلام العربى لحرب 73. وقد عمد البعض إلى إخفاء أو تشويه معالم حرب أكتوبر فى إطار محاولات مضنية لتضخيم "انتصاراتهم" والتسلق بها إلى ارتفاعات لا تتناسب فى واقع الأمر مع حجمها وتأثيرها فى مجريات الصراع العربى الإسرائيلى. متناسين أن حرب 73، ليست ملكًا للمصريين وحدهم، بل هى شرف يتسع لاحتضان كل العرب. وأن المصريين والسوريين حين شنوا هذه الحرب لم يشنوها حربًا بالوكالة عن أحد ولا ضمن جدول أعمال محدد مسبقًا من قوى إقليمية تحقيقها لأهدافها أو حفاظًا على مصالحها. إن منكرى الانتصار مكتمل الأركان، إنما يسيرون فى اتجاه مضاد لمسيرة الأحداث التاريخية العظمى وهو اتجاه محكوم عليه بالفشل على المدى البعيد.
وقد شجع هذا التناول الذى يتسم بالانشقاق واتباع الهوى الكثيرين فى الغرب على التماهى فى "عدم تصديق" أن العرب يمكنهم الانتصار فى أية مواجهة عسكرية مع عدوهم سواء كان هذا العدو هو إسرائيل أو غيرها. وذريعتهم فى ذلك إذا كان العرب أنفسهم منقسمين فيما بينهم بشأن هذه الموقعة، فهل نأتى نحن لنؤكد انصارهم فيها. لذا لم يكن مستغربًا أن يخرج علينا الوزير البريطانى الأسبق بوجة نظره التى تذهب إلى أن المصريين قد هزموا هزيمة منكرة فى الحرب، قبل أن يهرع إلى صب قدر من الماء البارد على تصريحاته. لقد أثبت الوزير البريطانى العجوز جهله المطبق بأبسط قواعد العلوم العسكرية، وأقر دون مواربة أنه لا يقرأ من التاريخ، إلا ما يغذى به رغبة محمومة فى "عدم تصديق" أن جنس العرب قادرون.
إن رأس المؤسسة التى استضافت الوزير البريطانى الأسبق، وأقصد به الكاتب المخضرم محمد حسنين هيكل يعد من كبار منكرى فكرة الانتصار المصرى مكتمل الأركان. وهو أمر لا يخفيه فى كتابه "أكتوبر 73 السلاح والسياسة". وهو كغيره من أعمال صاحبه متخم "بالوثائق" و"الشهادات" التى يمكن دائما توظيفها بشكل ما أو بآخر.
أما الإسرائيليون فهم أكثر الناس علمًا بما حاق بهم خلال هذه الحرب. ومع ذلك تطلب الأمر نحو 36 عامًا للإفاقة من حالة الذهول التى انتابتهم بعد الانكسار الرهيب لجيش الدفاع فى أكتوبر 73.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة