سلسلة المقالات السابقة التى حملت هذا العنوان لم تكن ترفا عقليا أو نزهة فى التاريخ تبتعد عن واقعنا المعاصر بما يحمله من مشاكل وهموم تمس حياة المواطن العادى.. بل على العكس من ذلك تماما.. فسؤالنا عن فشل حضارتنا المشرقية فى الأخذ بالأسباب التى انطلقت بها الحضارة الغربية منذ خمس قرون.. هو سؤال شديد المعاصرة نعيشه فى حياتنا اليومية ونحمل نتائجه على أكتافنا فى جميع مجالات الحياة.
فإذا كان أجدادنا قد فشلوا فى الاستفادة من ثورة اختراعات القرن الخامس عشر (البوصلة والمطبعة والبارود) رغم أنها كانت أمام أعينهم ورغم أنها فى الأصل إختراعات مشرقية (صينية) ونجح الأوروبيون فى استخدام نفس هذه الاختراعات لتكون دعائم حضارة جديدة وحديثة.. إذا كان هذا حدث فى الماضى.. فسوف يستمر فى الحدوث فى الحاضر والمستقبل.. وإذا كانت دعائم العصر الحديث مثلا هى الكومبيوتر والقنبلة الذرية والساتالايت والكريدت كارد.. فإن امتلاكنا لهذه الدعائم لن يكون له جدوى إذا لم تتغير البيئة المحيطة بنا.. البيئة الفكرية والاجتماعية والسياسية التى تهضم الإختراعات وتحولها إلى (حضارة)..
بالأمس القريب فى نهاية القرن الماضى.. تهلل العالم الإسلامى فرحا وهو يزف إلى الوجود خبر امتلاك باكستان للقنبلة الذرية.. ولكن مرت السنوات وستمر دون أن يتغير من أمر العالم الإسلامى أو باكستان شىء.. ظلت دولة فقيرة هشة ضعيفة اقتصاديا وسياسيا وظل موقعها الحضارى متخلفا.. تماما كما سيظل موقعنا الحضارى متخلفا ونحن نمتلك الكومبيوتر والساتالايت والكريدت كارد.. فامتلاك وسائل التقدم ليس له أى معنى أو نتيجة بدون امتلاك بيئة التقدم..
وبيئة التقدم المفقودة تحتاج إلى تغيير فى أنماط التفكير هناك فارق بيّن أن نحترم تاريخنا وأجدادنا وبين أن نقدسهم.. هناك فارق بين أن ننقلب على الدين، وبين أن نراجع وننتقد ونحلل آراء دينية قدمها أناس ماتوا منذ ألف عام.. لهم الشكر والتقدير على أنهم اجتهدوا وأعملوا عقولهم وقدموا ما هو صالح لعصرهم.. ولكن ما المانع أن نجتهد نحن أيضا ونعمل عقولنا ونقدم ما هو صالح لعصرنا.. لم أقرأ قط فى القرآن الكريم ولا فى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مذاهب الإسلام أربعة لا يجوز أن تزيد إلى سبعة أو عشرة ولا يجوز أن تنقص إلى ثلاثة.. الأئمة الأربعة لم يوح إليهم من السماء.. وإنما مارسوا حقهم الذى عرفوه من الإسلام فى التفكير والاجتهاد وهو حق ما زال ممنوحا لنا وللمسلمين فى كل العصور.. والمفارقة أن العصر الذى أنتج أئمة أهل السنة الأربعة والذى كان العصر الذهبى لحضارة الإسلام أنتج أيضا مذاهب إسلامية أخرى كالمعتزلة والأشاعرة والظاهرية وأنتج أيضا أهم المفكرين والفلاسفة والعلماء والفنانين.. أنتج ابن سينا والرازى والفارابى وابن الهيثم والمتنبى والجاحظ والموصلى وزرياب ومثلهم، كأبى حنيفة والشافعى وابن حنبل ومالك نتاج عصر منفتح الفكر لا يغلق باب الاجتهاد فى الدنيا ولا فى الدين.. وبالتالى يستطيع أن ينتج حضارة.. وعندما غاب انفتاح الفكر والقدرة على الاجتهاد فى الدنيا وفى الدين جفت منابع الحضارة.
بيئة التقدم المفقودة تحتاج إلى تغيير فى طريقة تعاطى الناس مع الدولة.. فمرور ألف وأربعمائة عام بدون ثورة شعبية واحدة ناجحة فى كل تاريخ بلاد المشارق وبدون واقعة واحدة حدث فيها التغيير السياسى من القاعدة إلى القمة.. هذا مؤشر خطير على خلل فى نمط التفكير السياسى سيطر على مجتمعاتنا وجعل آلية التغيير السياسى فى كل تاريخنا وفى كل دولنا تقوم على طريقة من اثنتين.. إما تغيير يأتى من داخل النخبة الحاكمة نفسها سواء بمؤامرات حريم القصور أو العائلة الحاكمة أو النخبة العسكرية.. وإما عن طريق الغزو الخارجى المباشر.. ولا وجود مطلقا لإرادة القاعدة الشعبية فى عملية التغيير السياسى فى كل تاريخنا وفى كل حضارتنا الإسلامية..
بيئة التقدم المفقودة تحتاج إلى أن يكون تطلعنا إلى الأمام وليس إلى الخلف.. ألا نتوهم أن العودة إلى الماضى هو الطريق نحو التقدم.. أن نتملك منهج التجريب، وألا نعترف بالمسلمات التى تعوق حركة الفكر الحر.. لقد امتلك أجدادنا فى الماضى البوصلة قبل أن يمتلكها الأوروبيون.. وعرفوا مبدأ كروية الأرض قبل أن يعرفه الأوربيون.. وكانوا أمراء للبحار وعباقرة فى رصد النجوم.. ولكنهم لم يكتشفوا العالم الجديد وإنما اكتشفه الأوربيون، لأن هذا الاكتشاف كان يحتاج إلى قدر من المغامرة والتجريب والفكر الحر والقفز فوق المسلمات.. وقد امتلك العثمانيون وهم يفتحون القسطنطينية أكبر مدفع فى العالم وقتها (والذى تزامن دخول الأوروبيون العصور الحديثة) ولكن العثمانيين لم يدخلوا بهذا المدفع العصر الحديث، لأن دخول العصر الحديث كان يحتاج لبيئة فكرية وسياسية مختلفة لم تكن موجودة عندهم.
********
إذا أردنا أن نستعيد دورنا فى مسيرة الحضارة البشرية.. علينا أن نهتم بأن نصنع فى داخلنا بيئة الحضارة قبل أن نستورد وسائل الحضارة.. وبغير ذلك قد نصبح قادرين يوما ما على إرسال رائد فضاء مسلم إلى القمر، ولكننا سنظل نختلف على مطالع الشهور القمرية.