مدحت أنور نافع يكتب:فى مجادلة البخاريين

السبت، 03 أكتوبر 2009 10:38 ص
مدحت أنور نافع يكتب:فى مجادلة البخاريين

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
أرسل إلى صديق ببحث طويل لباحث مجهول، استهل بحثه بتعريفات عامة للأصوليين والمحدّثين والسنّة العملية والقولية.. إلى غير ذلك من مفاهيم تكاد تكون موضع إجماع الأمة. وما هى إلا بضع صفحات التهمتها بنهم شديد حتى وجدت البحث يلتف حولى كى يطمرنى تحت نحو 400 صفحة من التراشق مع من سماهم الباحث بـ"القرآنيين"، ومن تصدير اتهامات خطيرة لكل من خالفه الرأى مثل قوله "إن السنة النبوية الشريفة هى المصدر الثانى للتشريع الإسلامى. وهذه حقيقة لا يعارضها أو يشغب عليها إلا شقى معاذ لله ولرسوله وللمؤمنين، مخالف لما أجمعت عليه الأمة سلفاً وخلفاً وحتى قيام الساعة - بحول الله تعالى"، (ص 5 من البحث). وكان يكفيه إن ظن فى نفسه العلم والكفاية أن يجابه منكر السنة الشريفة – إن كان هناك من ينكرها أصلاً - بما يرده إلى صوابه دون أن يستصدر حكماً عليه من الله عز وجل. ثم إنه خص فى هذه العبارة من أنكر أن السنة الشريفة هى المصدر الثانى للتشريع الإسلامى، وليس من أنكرها على إطلاقها، ثم إنه يتضح من سياق بحثه الطويل أنه يقصد بذلك من شكك فى صحة بعض الأحاديث المنسوبة إلى رسول الله (ص) متناً أو سنداً، ولم يقبلها على سبيل اليقين.

ثم يفرد الباحث من الصفحات عشرات التراجم لرجال ظن فيهم الفجور والضلال والكفر أحياناً، فكان بحثه بمثابة عريضة دعوى لوكيل نيابة يقف أمام المولى عز وجل ليطلب الإعدام لنفر من المسلمين، أحسب من ترجمته لحياتهم أنهم إن يقولون إلا ربنا الله ومحمد رسوله والقرآن دستورنا!. حاد البحث (أو عريضة الدعوى) عن الموضوعية فى أبسط صورها، إذ قدّم مخالفيه فى الرأى فى صورة جناة من القطرة الأولى لمداده، وكان خيراً له إن هو أمهلهم حتى يقيم عليهم الحجة ثم يترك الحكم فى أمر دينهم لخالقهم، وفى أمر دنياهم لقارئه.
ولأننى قد اعتدت مناظرة الكثيرين من المضللين بهذه الأفكار، وما على شاكلتها، فلم أجزع لهذا البحث الغريب، ولكن الذى استوقفنى عدد من التناقضات اعتاد أولئك الناقلون المقلدون ترديدها دون الوقوف على منطقها. ومن ذلك ما أورده الباحث المجهول فى معرض تأكيده على حجية السنة الشريفة فى التشريع، إذ يقول:
"ومن الآيات التى تدل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يقول أو يفعل شيئاً فى الدين إلا بوحى من عند الله - عز وجل - قول الله - سبحانه - مخبراً عن رسوله - صلى الله عليه وسلم -:الذين يتبعون الرسول النبى الأمى الذى يجدونه مكتوباً عندهم فى التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم (الأعراف:157 )"، (ص 5 من البحث).
وهنا يتضح أن الباحث قد استشهد بكتاب الله تعالى الذى أقام الحجة على أهل الكتاب بما هو لديهم فى التوراة والإنجيل، فإذا علمنا أن التوراة والإنجيل قد حرّفا قبل بعثة الرسول (ص) لأدركنا أن هذا لم يحل دون استشهاد المولى تعالى بصحيح نصهما، حتى وإن بدّل هذا الصحيح من وحى المولى تعالى، حتى وإن حرّف هذا الصحيح من قول الله تعالى، فما ظنّك بسنة الرسول القولية (ص) التى لم تجمع ولم تدوّن فى حياته أو حياة رفاقه؟ صحيح هذه السنة ملزم لنا ولكن يظل الاختلاف حول هذا الصحيح قائماً لما لا يختلف عليه أحد من وجود الكثير من التحريف والوضع والإسرائيليات فى العديد من مصادر هذا النبع الشريف من التشريع. ولمّا كان حفظ القرآن الكريم مهمة ربانية بحتة، فإن أدوات الله تعالى فى حفظ القرآن لا يمكن أن تقارن بأدوات عبادة البخارى ومسلم وأبى داوود والترمذى.. عليهم جميعاً رضوان الله. فقد اجتهدوا بل واختلفوا فيما بينهم، فاحتمل سعيهم السهو والخطأ، وما من نص يحتمل الخطأ يحتج به على سبيل اليقين.

أما والله لقد حرت فى أمركم أيها البخاريون، فإن الأصل عندكم ما قدم من الرأى وورد فى الأثر، ثم إنكم لا تقبلون كتب الأولين حجة بغير شيخ، فتقولون "من كان شيخه كتابه فقد سبق خطأه صوابه"! فقل لى إن أنا سمعت من شيخك المعاصر ما يخالف كتب الأولين فبأيهما أعتصم؟ أفإن كان من هؤلاء الأوائل رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه؟ ثم أخبرنى، لمن تركوا مئات الآلاف من الكتب إذن؟ تركوها لأهل العلم؟ أولست أيها الطبيب أو المهندس أهلاً للعلم، بلغت منه ما لم يبلغه سواك من أهل البيعة؟ ستقول لى هذا علم دنيوى.. وقد كنت بالأمس القريب تخبرنى أن الإسلام وعلومه هم دين ودنيا..

أما والله لأسألن خبيراً فيما شق علىّ فهمه من الأمور، ولا أعطل عقلى الذى به فضلت على سائر المخلوقات، ولا أعطل عقلى الذى به حمل الإنسان الأمانة التى أبت الأرض والجبال حملها، ولا أعطل عقلى الذى سألنى عنه الله تعالى "أفلا تعقلون"، ولا أعطل العقل الذى يرجو المسلم من أهل الكتاب أن يعملوه حتى يدركوا عظمة الله وهدى الإسلام، فإن هم قالوا وجدنا كتابنا وآباءنا كذلك يفعلون لا يشفع لهم ذلك عند الله من شىء، ولا تقبلونه حجة منهم معشر البخاريين. وإذا قلتم إن الدال على أهل العلم هم أهل العلم، فأنتم كمن عرّف الماء بعد الجهد بالماء، ولإن تجاوزنا عن هذه الدائرية والجدل البيزنطى، فمن لهؤلاء النصارى يرشدهم إلى أهل العلم من المسلمين، وهم بعد لم يدخلوا الإسلام؟ فإذا قلت لى تؤلف قلوبهم عن طريق الدعوة إلى الله، أقول لك إن الدعوة إلى الله ليست حكراً على أهل الاجتهاد، وهنا نعود إلى حقيقة أن الأصل فى الالتزام والتكليف هو العقل، وبالعقل والنقل يبلغ الناس مرادهم من العلم.

فسلسال العلم عن طريق الشيوخ لابد قد انقطع لولا الكتب التى نأخذ منها أيضاً بحرص وحذر. فهل من المعقول أن عصور الفتن والاقتتال والغزو والاحتلال بل وأكل لحوم البشر (فى الحالة المصرية فى بعض عصور حكم المماليك وما قبلهم) تكون مرتعاً وبيئة خصبة لتسليم الشيوخ مشاعل العلم لتلاميذهم؟ هذا الانقطاع كان وبالاً على المسلمين مثلما كانت عصور الظلام الوسطى على أهل أوروبا التى نمت فيها أفكار مشابهة لأفكار ثلة منا الآن. فما أشبه محاكم التفتيش فى أوروبا بدعوى صاحبنا فى بحثه.

أما والله أحسبكم قد ضيقتم فى موضع التيسير وأفسحتم فى موضع التضييق. فأما موضع التيسير الذى ضيقتموه فهو الاجتهاد، الذى أغلقتم بابه منذ أمد بعيد، وأما موضع التضييق الذى أفسحتموه فهو إرث الأولين الذى اسكثرتم فيه من المسلمات ما لم ينزّل الله تعالى به سلطاناً.

فيا لجهالة قوم مدحوك بصفة أرادوا بها ذمك، فأطلقوا على من خالفهم فى أمر تدقيق السنة القولية "قرآنيين" وإنه لشرف وحسن مقام، ذلك الذى يقترن فيه ذكر المرء بأعظم الذكر وأخلده. فاعلموا أن كثرتكم لن تغنيكم من الله شيئاً، وأن الحق حق فى ذاته لا لقول الناس فيه، وأن الله عليم حكيم، والله أعلى وأعلم.
• خبير بالمحاكم الاقتصادية






مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة