يسرى فودة

«تِسْلم البطن اللى شالت»

الثلاثاء، 27 أكتوبر 2009 07:02 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
غمرنى رد الفعل على قصة البطل الشهيد العقيد طيار محمد عبد الوهاب كريدى التى عرضنا جانباً منها الأسبوع الماضى حباً ووفاءً، وأكد لدىّ إحساساً يتحدى واقعاً صعباً نعيشه جميعاً بأن فى مصر خيراً كثيراً لا يزال.

كنا نتساءل، وربما مازلنا، عن أين ذهبت روح أكتوبر، وعما حدث لذلك الرجل الشهم الذى كان يترك مقعده فى الأوتوبيس لرجل عجوز أو لامرأة حامل، وعن هؤلاء الشبان الذين يتوقفون لمساعدة غريب تعطلت سيارته لأن «اللى يحب النبى يزق»، وعن هؤلاء الذين إذا سمعوا صوت سيارة إسعاف تنافسوا فى إخلاء الطريق أمامها، وعن ابن الحارة الذى يفور دمه إذا رأى جارته تخرج من سيارة رجل غريب، وحتى عن اللص الذى كان يدعو الله أن يسترها معه ولا يسرق «الولايا والشقيانين».

فى قصة البطل محمد كريدى محطات متعددة لقيم كبرى من الواضح أنها لمست أوتاراً حساسة لدى من عرفوه بشكل مباشر أو قرأوا عنه ما كتبناه، دعونا نبدأ بعائلته؛ فوالدته الكريمة ذات الخمسة والثمانين ربيعاً، وسط عاطفة جياشة ودعاء مستجاب بإذن الله أن تلحق به فى جنة الخلد، لا تنسى أن تدعو أيضاً لرفاقه الشهداء، وزوجته المخلصة التى ترملت صغيرة تختار أن تفتخر بما ينبغى لمثلها أن تفتخر به: «ترك ولديه طفلين صغيرين فغرستُ فيهما حب أبيهما حتى صارا رجلين أفتخر بهما»، وهذان، أحمد وعمر، ولدان من صلب بطل يبران أمهما وجدّتْهما ويستنسخان بطولة أبيهما فى صور مختلفة ويدينان، كما يدين باقى أفراد الأسرة الكريمة، بالامتنان والحب لكل هؤلاء من القراء الذين اقتطعوا من وقتهم كى يدعوا لفقيدهم، فقيد مصر كلها، بالرحمة وجنة الشهداء.

وهؤلاء، وأنا واحد منهم، نشكرهم مرتين: مرة لأن بطلاً كهذا ينتمى إليهم، ومرة لأنهم بعثوا فينا روحاً افتقدناها من زمان، منذ استشهاده يوم 1 سبتمبر 1975 إلى اليوم حدثت أشياء كثيرة أثرت بدرجات متفاوتة فى منظومة القيم لدى الشعب المصرى حتى صار كثير منا يأنف من حياة اليوم ويجد ملاذاً فى حياة الأمس. بل إن بعضاً منا يقسو على نفسه وعلينا، كما جاء فى أحد التعليقات، فيقول: «أنا عندى إحساس إننا ما نستحقش اللى الناس دى عملته علشانّا»، والحقيقة أن مجرد وجود إنسان قادر على كتابة تعليق كهذا يعتبر فى حد ذاته دليلاً على عرفان شديد بما قدمه الأولون وعلى أن من بيننا مَن هو قادر على استيعاب معنى ما قدموه.

صحيح أننا نعيش فى زمن صعب، لكنّ المعدن الأصيل لا يبين إلا فى الزمن الصعب، ومعدن الشعب المصرى بشهادة العالم كله معدن أصيل. فقط فى الليلة الظلماء يُفتقد البدر، والحمد لله أن للبدر دورةً لا يفارقنا أثناءها إلا كى يعود إلينا مرةً أخرى، طالما أن فينا محمد كريدى والحمد لله أن أبطال مصر الذين لا نعرفهم أكثر بكثير من هؤلاء الذين نعرفهم سيبقى بيننا دائماً ما نحتفل به ونلتف جميعاً حوله.

سنأخذ من كريدى شعلة الشجاعة وروح الإباء وفورة التحدى فى أحلك لحظة من تاريخنا المعاصر عندما انفصل بطائرته يوم 8 يونيو 1967 مقتفياً أثر رتل من دبابات العدو كى يدمره عن بكرة أبيه فوق كوبرى الفردان، وسنأخذ منه حلاوة الصبر وعمق الإيمان وهدوء الأعصاب حين طار بأمة العرب جميعاً فوق قناة السويس يوم 6 أكتوبر 1973 كى يدك مركز قيادة العدو فى بئر العبد وراداراته فى الطاسة. ثم سنأخذ منه جميعاً إيثاره الفذ وتضحيته التى لا تقدر بثمن عندما رفض، وقد اشتعلت طائرته أثناء التدريب يوم 1 سبتمبر 1975، أن يقفز منها خوفا من أن تؤذى فى طريقها أحد أبناء بلده فغطس بها فى نهر النيل.
سنأخذ هذا كله منه، لكننا سنأخذ أيضاً منه فضيلة إخلاص النية وقيمة إتقان العمل لأن هذه كانت شيمته وفوق هذا لأن الله يحب إذا عمل أحدنا عملاً أن يتقنه. وسنأخذ منه أخيراً حب الوطن وأصالة الأرض بعيداً عن الأغانى، وحب الأهل وصلة الرحم بعيداً عن الرياء، وسنقول جميعاً لأمه الكريمة ولأمهات أمثاله جميعهن: «تِسْلم البطن اللى شالت».








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة