منذ أن فجر الزميل محمد عبود بالمصرى اليوم قضية ترجمة ديوان "جغرافيا بديلة" للشاعرة إيمان مرسال لم تهدأ ردود الأفعال المصاحبة لنشر التحقيق، بدأها اليوم السابع باستطلاع موسع لرأى المثقفين فى القضية، ثم استبيان رأى اتحاد الكتاب فيها، وسؤال دور النشر عن مدى قبولها لنشر أعمال "مرسال" الشعرية فى المستقبل، ومتابعة تطورات القضية داخل إسرائيل نفسها، والحقيقة أن هذه القضية شغلت حيزا كبيرا من اهتمام وسائل الإعلام المختلفة، وكشفت عن تناقضات عديدة فى الجماعة "الثقافية" و"الصحفية"، كما جسدت هذه القضية حالة الفصام التى يعيشها المجتمع الثقافى بين القيم الإنسانية الراسخة والقيم المستحدثة، وبدا ملحاً أن نعيد تعريف المعرفات، ونقول للقبيح يا قبيح "فى عيونه" بعد أن ساد العور وهيمن التعامى.
أول ما كشفت عنه هذه القضية هو تجلى ما يمكن أن نسميه "الخسة المهنية"، فمن بدهيات العمل الصحفى أن يشير المحرر كاتب التحقيق أو التقرير إلى مصدر معلوماته، خاصة إذا كان ينقل عن جريدة زميلة "بالنص"، والمفاجأة التى أصبحت ظاهرة عامة هى أن معظم الصحف بل حتى معظم وكالات الأنباء نقلت عن اليوم السابع، دون أن تشير إليه لا من قريب ولا من بعيد، على عكس ما اتبعته اليوم السابع فى الإشارة دوما إلى مفجر القضية الزميل محمد عبود وجريدته المصرى اليوم، وهذا يدل على أننا بحاجة إلى إعادة تذكير الزملاء، بمبدأ الأمانة المهنية، لكن على العموم "النت مبيكدبش" ويستطيع كل متابع أن يعرف متى بدأت المتابعات ولمن قيلت التصريحات، ومن كان له حق النشر أولاً بأول.
ثانى ما كشفت عنه هذه القضية هو تباين رأى الجماعة الثقافية فى قضية التطبيع نفسها، واختلط الأمر بين فضيلة نشر الثقافة والمعرفة التى لا يعاديها عاقل، وخطيئة التطبيع التى لا يرتكبها إلا مغرض، بل إن هناك من الأصدقاء من تعامل مع الأمر بحسن نية، وجهل "طيب" فأثناء إعداد الزميلة سارة علام لتحقيق عن آراء المثقفين فى ما فعلته "مرسال"، فاجأتنى برأى أحد أصدقائى المشجع لهذه الخطوة، ولأنى أعرفه كما أعرف نفسى، اتصلت به لأتأكد من صحة كلامه، وجدت أنه لا يعرف ماذا يعنى التطبيع، وقال لى إنه كان يظن أن الذى يطلق عليه لقب "مطبع" هو ذلك الذى يذهب إلى إسرائيل لا من يقبل التعامل معها. وطبعا ألتمس العذر لصديقى العزيز، فقد تاهت المفاهيم، واختلطت البضائع، وما كان الأمس من المسلمات التى لا تقبل تفاوضا أو جدالا، أصبح "وجهة نظر"!!
كيف تنظر فى يد من صافحوك ولا تبصر الدم؟ سؤال أطلقه أمل دنقل فى السبعينيات، للذين يتحركون برشاقة الجرذان بين مواسير الصرف الصحى، دون أن تزكم أنوفهم الرائحة الكريهة، ولا تغشى أبصارهم ظلمة الهوان؟ المعرفة حق، والحب حق، والسلام حق، لكن مناصرة الظالم ومخالفة القانون الإنسانى باطل، لا يتجرأ أحد على ادعاء شرعيته، ولا إكسابه ثوب البراءة، أتأمل ردود أفعال بعض المثقفين تجاه قضية طباعة ديوان "مرسال" فى إسرائيل بموافقتها فأجدنى أمام متاجرة علنية، فيها يبيع المثقفون ضمائرهم هربا من "شبه" الاتهام بالقومية أو الإسلاموية أو النعرات الوطنية، البعض تمنعه صداقته مع "مرسال" من الإدلاء بشهادة حق ضدها، كما لو كانت الصداقة أعلى من الحق، ناسين المقولة العربية "صديقك من صَدَقَكَ لا من صَدَّقَك"، وناسين قول نيتشة العظيم "الصديق للصديق كالفراش الخش"، وبدعوى الصداقة شحبت الإدانات وتراخت الأقوال، وماعت المواقف، ولا أحد يعرف على وجه التحديد هل يدافع أصدقاء "مرسال" عن شخصها، أم عن موقفها، أم أنهم يدافعون عن أنفسهم باعتبارهم التالين فى قائمة المرحبين بالتعاشق الإسرائيلى الحرام؟
حرام أن يتنازل المثقفون المصريون عن موقفهم الموحد ضد الظلم، وحرام أن تتوه مفاهيم بعض الكتاب الشباب، وحرام أن نحمل القضية الفلسطينية بأبعادها الإنسانية المؤلمة حالة الشقاق العربى وانهزام شعارات القومية العربية، وحرام أن نقف أشتاتا لا يعرف أحدنا إلى من ينتمى، كل هذا يتطلب منا وقفة مع الذات لنضع ميثاق شرف إنسانيا كريما، ننصر فيه المظلوم ونواجه الظالم حتى ولو بورقة أو كلمة أو بإشارة، لا أن نغض الطرف عن جرائم المجرمين، وأنات المظلومين.
غداً.. زلة الشاعر والمتاجرة بالهولوكوست الجديد
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة