فى قلب القاهرة بحى عابدين ولدت صاحبة «عيون القلب» فصارت عيون قلب القاهرة، وصوتها الدافئ الحنون، اسمها نجاة محمد حسنى البابا، أبوها كان يعمل خطاطا، بانسيابية ورشاقة وتأنق كان يؤدى عمله الذى وصل فيه إلى أعلى المراتب حتى أصبح أشهر رسامى المملكة المصرية، من حروف أبيها المنمقة ببراعة أخذت نجاة انسيابية الصوت وحنوه وصدقه الشفيف.
استعاضت نجاة بحنان «الحرف» لتتغلب على جفاء الحياة وقسوتها ومعاناتها المستمرة فى حياتها العائلية المتذبذبة التى شهدت تفكك القائمين على الأسرة وحيرة أبنائهم معهم، كانت تغنى وهى طفلة صغيرة بنت الخامسة فكان الغناء أباها وأمها وراعيها، كانت تغنى لتأتنس، وتغنى لتفرح وتغنى لتتغلب على الحزن، حتى صنعت من الغناء حصنا ضد العناء.
كان صوت أم كلثوم مرشدها وحاميها من التخبط، احتضنها صوت «الست» فكان أباها وأمها عليه تربت وبه استكفت وإليه هرعت، «أسهر وانشغل أنا وانت ولا انت هنا» هذه الأغنية التى قدمتها سنة 1957 كانت بداية انطلاقها الحقيقى، بعدها قدمت «العوازل يا ما قالوا ليه بحبو ليه/ رد قلبى قال وماله لما أحبو إيه» ثم «ساكن قصادى».
وفى أحد الأيام استيقظت نجاة من نومها لتجد فى بريدها رسالة من شاعر سورى كان بين عائلته وعائلتها علاقة قديمة، فتحت الرسالة فوجدت بها قصيدة، فى البداية استصعبتها، وبعد قليل عرضتها على كبار الملحنين لتعرف هل من الممكن أن يتم تلحينها، فأجابها الملحنون: لا يمكن، ولما لم تعرف ماذا تفعل بها أرسلتها إلى إحدى الصحف لنشرها، فاتصل بها «عبدالوهاب» ليقول لها تعالى بعد ساعتين عشان أنا لحنت القصيدة، كانت هذه «أيظن» التى أهداها لها الشاعر نزار قبانى بداية الانطلاق فى غناء القصائد التى جسدت بها آلام الحب ومعاناته وتقلباته.
ما بين حنان صوت «نجاة» وقسوة حياتها مفارقة كبيرة، فكيف يقدر هذا الصوت الحنون الدافئ أن يمنح سامعيه الألفة والبهجة، برغم أن صاحبته ظلت محرومة منه، واكتفت بسكونها وصمتها، حتى أن نزار قبانى قال عن صوتها: «صوت نجاة بالنسبة لى يعبر عن أعماق الأنثى الضعيفة الخجول التى تخاف من البوح عما فى عالمها الذاتى من أحاسيس» ووافقه فى هذا الملحن الكبير محمد عبدالوهاب الذى أطلق عليها اسم «صاحبة السكون الصاخب».
ولم يكن هذا اللقب هو الوحيد فى حياة نجاة، فأطلق عليها عدة ألقاب أهمها «عصفورة الجنة» و«صاحبة الصوت المخملى» «الصوت الحنون» «صوت الحب» «الضوء والشموع» «همس الرومانسية» كل هذه الألقاب وغيرها هى بالتأكيد تستحقها لكن فى شخصية نجاة الفنية غموض كبير يجعلها تنظر إلى هذه الألقاب من بعيد، وهى قليلة «الكلام» عظيمة الإنجاز.
ومن يتأمل مسيرتها الفنية يجد أنها طوال حياتها ما كانت تسمح لأحد أن يقتحم عليها حاجزها الحريرى، حتى حينما ماتت أختها فى حادث غامض، لم تقل شيئا يذكر، هى سيدة الصمت تمارسه بتلقائية وعفوية متقنة كما لو كانت قد فطرت عليه، ولا تتكلم إلا حبا، فى دأب وإخلاص كانت تعمل لتجعل الحب رسولها ورسالتها، كانت تجتهد فى أن تكون على قدم المساواة مع الشاعر الذى يكتب لها والملحن الذى يبتكر جمله اللحنية، واستعانت على هذا بمصاحبة المثقفين والكتاب أمثال «محمد التابعى»، و«مأمون الشناوى»، و«كامل الشناوى»، و«فكرى أباظة» الذى أطلق عليها اسم نجاة الصغيرة حينما كتب عنها فى بداية مشوارها إنها «نجاة الصغيرة التى تحتاج إلى المزيد من العناية حتى يشتد عودها، كل هذا الدأب والحرص وهذا ما جعلها تقول فى ثقة بعد أن قررت الاعتزال «ابتعادى لن يفقدنى مكانى فى قلوب الناس».
«وأنا رمشى ماداق النوم وهو عيونه تشبع نوم» اعتزلتنا نجاة، ولم نعتزلها، تركت فينا بذرة الحب والشوق والوله، فإذا بالبذرة تنمو وتكبر فينا ككلمة طيبة أصلها ثابت وفرعها فى القلوب، قال عنها الروائى الكبير خيرى شلبى إنها: النسخة الأنثوية من عبدالحليم حافظ وعلى صوتيهما صال وجال كل من محمد الموجى وكمال الطويل ومحمود الشريف، واصلت نجاة الصغيرة من مرحلة إلى مرحلة كأنها تمشى على السحاب لتكون بذلك مشاركة فى تأسيس «وجدان جيل بأسره».
وفى العام 2003 أعلنت نجاة الاعتزال بعد ما يقرب من 75 عاماً من الغناء، ومنذ شهرين احتفلت نجاة بعيد ميلادها وحدها لم يضئ لها أحد شمعة، ولم يفاجئها أحد بهدية، يقولون إنها لبست الحجاب، ويقولون إنها تستمع الآن لآيات القرآن بقلب خاشع وجوارح مطمئنة، ويقولون إنها طلبت من شيخ الأزهر أن ترتل القرآن إلا إنه رفض، ويقولون عنها أشياء كثيرة، بينما هى صامتة آمنة بعيدة عن العين قريبة من القلب والذاكرة.
سيدة الصمت التى لا تتكلم إلا حباً
نجاة.. ملاك الحب وأسطورة الأحلام
الخميس، 22 أكتوبر 2009 01:49 م