لفترة طويلة ظل البعض يعرف المستشار طارق البشرى بوصفه مؤرخا ومثقفا كبيرا له اجتهادات، وعرفه قطاع آخر فى عالم القانون بصفته قاضيا صاحب اجتهادات قانونية عملية، تمثل مرجعا مهما.
والواقع أن طارق البشرى من قلائل جمعوا بين الفكر الاجتماعى والتاريخى وبين العمل المتخصص. ونوع من المفكرين تحتاجه مصر، فى سياق البحث عن طريق للخروج إلى عالم أكثر ديمقراطية واتساعا.
ولد المستشار طارق البشرى فى حى الحلمية بالقاهرة فى أسرة تمتد بأصولها إلى محافظة البحيرة، وعرفت باشتغالها بالعلم الدينى والقانون، جده لأبيه سليم البشرى، تولى شياخة الأزهر، ووالده المستشار عبدالفتاح البشرى كان رئيس محكمة الاستئناف حتى وفاته 1951، وعمه هو الأديب والكاتب الشهير عبدالعزيز البشرى.
تخرج طارق البشرى فى كلية الحقوق جامعة القاهرة عام 1953، وهى فترة حساسة لأنه عاصر نهاية الملكية وبدايات الجمهورية وهو فى الجامعة. بدا أقرب إلى الفكر الاشتراكى والديمقراطى، وظهر فى منهجه الذى اتبعه فى كتاباته بمجلة «الطليعة»، «كان تفكيرى وطنيًا فيه فكرة الاشتراكية قوية من حيث إنها عدالة اجتماعية ومن حيث إنها بناء وطنى مستقل من الناحية الاقتصادية والسياسية».
بدأ يكتب مقالاته فى الطليعة خلال النصف الثانى من الستينيات، وجاء كتابه المهم «الحركة السياسية المصرية 1945 1952-»، علامة على مولد مؤرخ، عالج فترة مهمة وفارقة فى تاريخ مصر، قبل ثورة يوليو، ورصد مواقف لتيارات المختلفة من اليسار إلى الوفد ومصر الفتاة والإخوان المسلمين من قضايا الاستقلال والديمقراطية والقصر.
عندما أصدر الطبعة الثانية من كتابه «الحركة السياسية» فضل أن يصدره كما هو بالرغم من كونه غير بعض منظورات الرؤية لديه لكنه لم يغير الكتاب. أو يصدر كتابا آخر يعيد فيه النظر.
انتقد غياب الديمقراطية فى ثورة يوليو، فى كتابه المهم «الديمقراطية ونظام يوليو»، واتسمت مراجعاته وانتقاداته بروح المؤرخ فى عمقها وشموليتها، وأخذ الزمان والمكان فى الاعتبار، وأيضا ميزت فكرة القاضى أحكامه وجعلتها أميل إلى التخفيف، مع حرص على تحقيق الوقائع، وذكر الحيثيات. وهى أمور منحت البشرى احترام مخالفيه قبل مؤيديه.
وبالرغم من أنه أصبح ممثلا للتيار الإسلامى فإنه لايعادى التيارات الأخرى، يتحدث عن فقه الواقع الذى ينقص التيار الإسلامى، «هناك نقصًا واضحًا لا يزال قائمًا فى إدراك ما يمكن أن نسميه «فقه الواقع».. فعلوم الواقع لم تندمج بعد فى الإدراك الثقافى الإسلامى».
ويبدو البشرى أقرب إلى مفكرى ومثقفى النصف الأول من القرن العشرين، فترة السعى للاستقلال والدستور، واتسمت بنوعين من المثقفين، الأول تيار الباحث فى الأفكار التاريخية والسياسية فى أوروبا، وبدأها رفاعة الطهطاوى واستمر تلاميذه ليتوزعوا بين دعاة التجديد والأخذ بالفكر الأوروبى مثل طه حسين ولطفى السيد، أو المجددين للفكرة الإسلامية مثل محمد عبده وجمال الدين الأفغانى. أما الثانى فكان أقرب إلى الفكر القانونى أو نضال المحامين الذى يسعى إلى الاستقلال بالدفوع القانونية، والذى مثل ذروته سعد زغلول وقطاع واسع من البرجوازية التى كانت تسعى للمفاوضة بجانب الكفاح.
وبجانب كونه مفكرا ومؤرخا فهو أحد أبرز القانونين المصريين المعاصرين، وصل إلى منصب النائب الأول لرئيس مجلس الدولة، ورئيس للجمعية العمومية لقسمى الفتوى والتشريع عدة سنوات، وترك ذخيرة من الفتاوى والآراء الاستشارية التى تميزت بالعمق والتحليل والتأصيل القانونى، واتسمت بإحكام الصياغة القانونية، مع بلاغة لا تخل بالوضوح.
وهو أمر يسير متوازيا مع طبيعة طارق البشرى كمؤرخ ومثقف له اجتهادات فى التاريخ والأفكار، وله عدة كتب فى التاريخ السياسى والاجتماعى.
توالت بعد ذلك مؤلفات البشرى التاريخية والفكرية لكنه ظل ملتزما طوال فترة عمله فى السلك القضائى بعدم التطرق أو ممارسة نشاط سياسى حتى خروجه على المعاش فى عام 1998، مازلت أتذكر أننى كلما كنت اتصل بالمستشار البشرى أثناء وجوده كنائب لرئيس مجلس الدولة لأسأله فى موضوع سياسى كان يعتذر بهدوء مؤكدا «أنا قاضٍ»، وكان يكتفى بإبداء الآراء القانونية والتشريعية دون أن يتطرق لقضايا سياسية مباشرة. وتغير هذا بالطبع بعد خروج المستشار البشرى، لكن ظلت فكرة القاضى واضحة فى أبحاثه وكلماته ومداخلاته.
عرف البشرى بالكثير من الأحكام التى جاءت بحيثيات محكمة يصعب تجاهلها أو الطعن عليها، وكانت تقاريره بخروج أحزاب أو لصالح أفراد رفعوا دعاوى على جهات تنفيذية.
ويبدو البشرى سواء فى مشروعه المدنى والإسلامى حريصا على الديمقراطية والتعددية، ويرى أن «أول شرط للديمقراطية هو أن تكون صناعة محلية صرفة، تتشكل من المادة الوطنية دون غيرها».
ويحرص فى طرحه على أن تقبل الأحكام «بالمساواة بين المواطنين جميعا، وتساوى غير المسلمين مع المسلمين».
أهم مايمكن أن يميز المثقف هو قدرته على الإلمام بأكثر من خيط لثقافته، ولعل طارق البشرى هو واحد من النماذج التى يجمع المتفقون والمختلفون معه على احترامه واحترام اجتهاداته، حتى وهم يختلفون مع توجهاته سوف يقدرونها.
يرى أن أول شرط للديمقراطية أن تكون صناعة محلية
طارق البشرى.. قاض بشمولية مؤرخ.. ومثقف باحث عن العدالة
الخميس، 22 أكتوبر 2009 01:57 م
طارق البشرى
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة