تخيل معى لو أن الضباط الأحرار استمعوا إلى مطالب رفيقهم خالد محيى الدين ومنحوا بلدهم الديمقراطية والدستور والحياة النيابية، ثم عادوا إلى ثكناتهم ليمارسوا الدور الطبيعى لأى جيش فى الدنيا، وهو حماية حدود الوطن، وحماية طبيعة الدولة، أظن، بل لا داعى للتردد ودعنى أؤكد أن مصر «كانت هتبقى حاجه تانية».
دعك من الرأى المكرر الذى يؤكد أصحابه أن ما حدث كان لابد أن يحدث، فالحقيقة أن ما حدث قد حدث لأن القادرين على صناعة التاريخ قد اختاروه.. والضباط الأحرار الذين حملوا أرواحهم على كفوفهم ليلة 23 يوليو واستولوا على الحكم هم الذين اختاروا بكامل إرادتهم أن يعينوا أنفسهم بديلا عن الشعب ومؤسساته، إنه الإغراء اللعين لشهوة السلطة، الذى عطل بلدنا كثيرا عن التقدم للأمام.. وجعل نضالنا منذ سنوات طويلة يقتصر فقط على إزالة آثار عدوان «الإخوة الضباط» الذين عسكروا البلد، أو للدقة حسب تعبير الصاغ خالد محيى الدين جعلوا مصيرها فى يد ديكتاتورية عسكرية.
ولد الشاب الثائر بحثا عن العدل خالد محيى الدين فى 7 مايو 1918م، فى كفر شكر بمحافظة القليوبية، لأسرة معروفة. عمل فى سلاح الإشارة فى منقباد بصعيد مصر، التحق بكتيبة بنادق المشاة بالإسكندرية، ثم انتقل إلى منقباد سنة 1939، حيث التقى جمال عبد الناصر، ثم سافر إلى السودان سنة 1940. وشارك فى الدفاع عن فلسطين ضد العدوان الصهيونى عام 1948.
فى المسار الموازى لهذه الرحلة لم تهدأ روح الأستاذ خالد بحثا عن الحرية وعن العدل، فقد كان مكتوبا له أن يكون شيخا للطريقة الصوفية النقشبندية، صحيح أن الحياة أخذته بعيدا، ولكن التصوف أصبح جزءا أصيلا فى تكوينه، فهو يراه جانبا أخلاقيا يخص من يختاره، يمنحه رحيقا من المحبة والأخوة، ليس من أجل دخول الجنة، ولكن من أجل إرضاء ذاته وإرضاء الله عز وجل.
كان من الممكن أن ينجرف خالد فى طريق جماعة الإخوان صاحبة التأثير الواضح وقتها، ولكن كان ذلك مستحيلا، أولا لأن قضية التحرر من الاستعمار كانت شاغله الأول، وثانيا لأن قضية العدل الاجتماعى والحرية كانت حلمه.. وهو ما لا يتوافق مع جماعة ليس لديها رؤية واضحة لتحقيق دولة العدل، ولا تملك سوى كلام غائم عن دولة يحكمها شيوخ بشعارات دينية.
لذلك كان طبيعيا أن ينحو يسارا وينضم إلى تنظيم شيوعى صغير اسمه «اسكرا» أى الشعلة، وهو فرع من التنظيم الشيوعى الأشهر، وحتى لا تذهب بخيالك إلى الصورة النمطية السائدة عن الشيوعيين بأنهم كفرة، فقد أسعدنى الحظ، لأننى نشأت وتربيت فى شبرا الخيمة، وعرفت عمالا شيوعيين من هذا الجيل، كانوا مسلمين متدينين ويتعاملون مع الماركسية باعتبارها وسيلة لتحقيق دولة العدل لا أكثر.
الأستاذ خالد كان من هذه النوعية الفريدة، فجنوحه إلى اليسار لم يجعله يتخلى عن كونه مسلما ومتصوفا، كما أنها لم تمنعه من الدفاع الصلب عن الحريات العامة والديمقراطية، ولم أضبطه وأنا أقرأ الكثير مما كتب عنه، يدافع عن ديكتاتورية البروليتاريا المبدأ الرئيسى الأشهر فى الماركسية اللينينية.
هذه التركيبة المتسامحة هى ما جعلته يؤسس بنجاح عام 1976 حزب التجمع الوطنى التقدمى الوحدوى، والذى كان يضم كل أطياف اليسار، ليقود الحزب الأكثر إزعاجا لسياسات الرئيس السادات غير المنحازة للفقراء.
هذه الطبيعة المتسامحة هى التى حمته، فقد خاض صراعا شرسا ضد رفاقه الضباط، ولكن لأنه مارسه بشرف وبدون ضغينة شخصية، ولأنهم كانوا أنقياء مخلصين، ففى أحلك اللحظات كان ينال احترامهم جميعا، رغم أنه كان ينتقدهم باستمرار بسبب تعطيل الدستور والبرلمان، والحريات العامة مهدرة والصحافة تحت الرقابة ومجلس قيادة الثورة ينفرد بكل شىء وأى شىء.. أى أنه الحاكم المطلق بدون أى مواربة.
هذا الصراع تبلور فى أزمة مارس 1954، فأصبح محمد نجيب المتمسك بسلطته كرئيس جمهورية وقائدا للجيش فى طرف رافعا شعارات ديمقراطية، وجمال عبد الناصر فى طرف يريد سيطرة مجموعته على البلد.. وبين الاثنين كان الأستاذ خالد يرى أن يعود الجيش إلى الثكنات ويستقيل من يريد منه ويؤسس حزبا ليخوض صراعا ديمقراطيا للوصول إلى السلطة.. لكن ضاع صوته وصوت مناصريه من داخل وخارج الجيش فى الصراع بين غوغائية وانتهازية الطرفين المتصارعين.. ليخسر الضابط الشاب معركته الكبرى لتحقيق العدل.. والتى كاد أن يتم اعتقاله فيها أكثر من مرة.. وكاد أن يطلق عليه أحد الضباط الصغار الأغبياء الرصاص وهو خارج من مجلس قيادة الثورة.
كان الحل أمام الأستاذ خالد هو أن يصمم على ما طلبه كثيرا وهو الاستقالة من مجلس قيادة الثورة، وهو ما رحب به جمال عبد الناصر، بشرط أن يستقر فى دولة هادئة هى سويسرا، فليس فيها أى نشاط سياسى يسارى، وهو ما حدث لعدة سنوات.
وعاد بعد سنوات ولكنه لم يتوقف عن البحث عن الحرية والعدل، ولتثبت الأيام صحة مواقفه، فقد وقعت هزيمة 1967 المروعة، وحسب قول الأستاذ خالد فى مذكراته «الآن أتكلم»، فكثير من الذين هاجموه وشتموه اعتذروا له، فالكثيرون منهم أضير بسبب حسابات فردية لا يمكن أن تزدهر إلا فى مناخ يفتقد الديمقراطية.
نفوه وكادوا يقتلونه لأنه لم يكن مثلهم
خالد محيى الدين.. هجر نعيم السلطة دفاعا عن العدل والحرية
الخميس، 22 أكتوبر 2009 01:56 م
خالد محيى الدين
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة