خالد صلاح

لماذا قرر الرئيس زيارة البلقان وشرق أوروبا؟

الخيال السياسى لمؤسسة الرئاسة

الخميس، 22 أكتوبر 2009 01:10 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
اسمح لى أن أعترف لك بأننى لم أتابع بشغف أيا من زيارات الرئيس مبارك الخارجية، أكثر مما تابعت بكل حرص ودقة هذه الزيارة الأخيرة، التى بدأها بالمجر، ثم إلى كرواتيا، وسلوفينيا، واختتمها بزيارة إلى إيطاليا قبل عودته إلى القاهرة، واسمح لى أن أعترف أيضا بأننى لم أدقق فى طبيعة أى من الوفود المرافقة للرئيس فى رحلاته الخارجية، أكثر مما دققت فى الوفد المرافق له من الوزراء ورجال الأعمال فى هذه الرحلة، سعيا وراء فهم أسباب الزيارة ومدى أولوياتها للمصالح المصرية.

فمن بين كل زيارات الرئيس إلى بلدان العالم، أستطيع بحسم تصنيف هذه الزيارة بأنها تمثل تحولا مهما فى استراتيجيات السياسة الخارجية المصرية، وأستطيع عبر إطلالة شاملة على خريطة المصالح فى العالم، التأكيد على وصف هذه الرحلة بأنها (مبادرة شديدة التطور من مؤسسة الرئاسة) لإعادة تشكيل علاقات مصر الدولية.

هذه الزيارة كما أفهمها من تفاصيل اجتماعات ولقاءات الرئيس ومفاوضاته، تعنى- من وجهة نظرى- أن القاهرة تسعى بإصرار لتجاوز مرحلة (وضع كل التفاح فى سلة واحدة)، سواء على الصعيد الأوروبى أو على صعيد العلاقات مع الغرب بشكل عام، وأن الدبلوماسية المصرية التى عانت مؤخرا من بعض المشكلات مع بلدان حوض النيل، قررت ألا تهمل وراءها بلدانا قد يراها العالم فى وقت ما، أنها (بلدان متوسطة القوى) فى حين يمكن أن تصبح فجأة فاعلا رئيسيا وحاكما فى أى من مصالح مصر الخارجية، بل ويمكن أن تصبح هذه البلدان رصيدا لصالح مصر، بدلا من أن تصبح رصيدا لخصومها.

أنت تعرف طبعا أن خبراء السياسة الدولية فى القاهرة، وجهوا لوما قاسيا إلى الأداء الدبلوماسى المصرى بعد الأزمات المتكررة مع بلدان أفريقيا، خاصة بلدان دول حوض النيل، انطلاقا من هذا المأزق الذى واجهنا مع دول الحوض، والمخاطر التى تلوح فى الأفق وتهدد حصتنا المائية، لا قدر الله، كانت الصورة تبدو كأننا أدرنا ظهورنا لأشقائنا فى القارة السمراء، ولشركائنا فى الماء والحياة، وكان علينا أن نلملم أخطاء الماضى بما استطعنا إليه سبيلا، ومن وحى هذا المأزق يمكننى أن أقرأ خيال مؤسسة الرئاسة فيما يتعلق بإعادة ترتيب الأوراق مع العالم بأسره، فالقاهرة لا تريد أن تتعرض إلى ضغوط مفاجئة من بلدان لم تكن عداواتها أو أزماتها على لائحة التوقعات، والقاهرة تريد أن ترتب العالم وفق أولوياتها المستقبلية، ليس فقط حسب ما يفرضه إيقاع الحاضر.

فلو نظرت مصر إلى خريطة العلاقات التجارية والسياسية الحالية، فربما لن تمنح المجر وسلوفينيا وكرواتيا كل هذا الاهتمام الرئاسى، فالأولى هنا بلدان أكثر قوة وأوسع تأثيرا فى أوروبا الغربية، لكن الرسالة التى أرادتها مؤسسة الرئاسة فى تقديرى، وأرادها الرئيس مبارك شخصيا أن القاهرة راغبة فى تمهيد جسور التواصل مع الجميع، القوى الحالية والقوى المحتملة، البلدان الكبرى والبلدان الصغيرة، القوى العظمى والقوى المتوسطة، أو من ليس لهم قوة على الإطلاق.

الرئيس هنا يحمل رسالة شاملة فى ظنى، أكثر مما ينجز زيارة محدودة الأثر، والرسالة هنا تتجاوز حدود الزيارة وتتجه نحو إرساء مبدأ راسخ، المبدأ هو أن القاهرة لا تقبل بأن يمتلك طرف واحد كل أوراق اللعبة الاقتصادية والسياسية، وأن القاهرة لن تلعب على الصعيد العالمى وفق معطيات الحاضر وحده، بل تلعب وفق ما تتصوره هى عن المستقبل السياسى والاقتصادى وخريطة مصالحها أيضا.

فأيا كانت علاقاتنا مع كرواتيا، فإنها لن تبلغ بأى حال المستوى الذى وصلت إليه مع إيطاليا، وهى الشريك الأوروبى الأول لمصر على المستوى التجارى، لكن الرئيس أعطى كرواتيا وسلوفينيا نفس الأهمية التى أعطاها لإيطاليا، فالرسالة إذن لا تخص معطيات الحاضر فقط، ولكنها رسالة تخص ما يمكن أن يحمله المستقبل فى خريطة تطور العلاقات مع أوروبا.

لهذا السبب، أرى فى زيارة الرئيس لبلدان البلقان وشرق أوروبا نقطة تحول مهمة تفرض على سائر مؤسسات الدولة، الرسمية والشعبية، أن تمضى على النهج نفسه، فالرئيس هنا، حسب تقديرى كمراقب، يفتح الباب لمختلف المؤسسات إلى تنويع علاقاتنا الدولية إلى الحد الأقصى، ومؤسسة الرئاسة أدركت دروس ما جرى فى أفريقيا، وما واجهناه فى انتخابات اليونسكو من تحالفات من بلدان لم تكن فى الحسبان، ومن ثم قررت المبادرة تحريك مختلف دوائر العلاقات، وتوسيعها بما يتلاءم مع نمو المصالح الوطنية المصرية على الصعيد العالمى، فإن كانت مصالحنا فى مستوى نمو متزايد، فإن علاقاتنا الدولية يجب أن تشهد نموا مماثلا، يتناسب مع ما نطمح إليه من تأثير على الصعيد العالمى.

هذه المبادرة الرئاسية تفرض نوعا من الفهم لدى مؤسسات الدولة الأخرى، وتحتم عليها العمل بهذا المستوى من الخيال، ولذلك أتوقع أن تبادر مؤسسات ثقافية مصرية إلى فتح قنوات للتعاون مع بلدان شرق أوروبا من تلك التى زارها الرئيس، أو بلدان أخرى لم تشملها الزيارة، فالعبرة هنا ليست بمحطات الرئيس فى الخارج، بل بالرسالة التى يؤسس بها لمرحلة جديدة من العلاقات الدولية.

أتصور مثلا فى هذا السياق أن يبادر مهرجان القاهرة السينمائى إلى توسيع دائرة التعاون مع سينما أوروبا الشرقية وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وأن تبادر دوائر رجال الأعمال المصرية إلى اعتماد هذا القدر من الخيال المستقبلى أيضا، بإعادة بناء خريطة استثماراتها مع بلدان العالم، بحيث تتناغم مع الاستراتيجية التى تؤسس لها القيادة السياسية المصرية، وأتصور أيضا أن تبدأ مرحلة للتعاون بين جامعات مصر وجامعات البلدان الواقعة ضمن خريطة مصالحنا الدولية، فى أفريقيا أو فى أوروبا أو فى بلد آخر فى العالم، فخبرات السنوات الماضية بانتصاراتها وانكساراتها، برهنت على أن معادلة القوى فى العالم، لا تعنى فقط أن ترتبط بعلاقات واسعة مع الأقوياء وحدهم، بل أن تحقق أعلى قدر من التوازن مع مختلف القوى بدرجاتها المختلفة، ومن لا نحتاجه اليوم قد نضطر إليه غدا، وما ندير ظهرنا له اليوم قد نرغب فى أن ننظر مباشرة إلى عينيه فى المستقبل.

هذه الزيارة أراها نموذجا للخيال المتطور فى العلاقات الدولية لدى مؤسسة الرئاسة، وينبغى على مختلف المؤسسات الرسمية أن تتبنى هذا القدر نفسه من الخيال لنصير جميعا، شعبا وحكومة، شركاء فى تأكيد قوة مصر الخارجية، ونساهم فى نموها محليا وعالميا بحسابات تنظر إلى ما تحمله متغيرات العالم من تحديات، وإلى ما نرمى إليه من طموحات جديدة.





مشاركة




لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة